Canalblog
Editer l'article Suivre ce blog Administration + Créer mon blog
Publicité
مدونة الدكتور عبد الإله كنفاوي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية تطوان- المغرب
24 novembre 2013

الأوزان والأغراض في الشعر الأندلسي بين التنظير والتطبيق

ماستر الشعر العربي القديم ومشروع التحول

 

إشكالية الوزن والغرض

في الشعر العربي بالأندلس

 

 

مطبوع دراسي في مادة:

التمايز والتماثل في الشعر الأندلسي

لطلبة ماستر الشعر العربي القديم

 ومشروع التحول

الفصل الثالث

 

 

 

السنة الدراسية: 2012 ـ 2013

                 

 

 

 

إعداد: الدكتور عبد الإله كنفاوي


 

الأوزان والأغراض في الشعر الأندلسي

بين التنظير والتطبيق

 

تقديم:

   نقصد من وراء هذه الدراسة، معرفة ما ناسب الغرض الواحد من أوزان شعرية، في ضوء ما تمليه نسبها من المقاييس الاحصائية.

    ومما ساعدنا على تتبع هذه القراءة، حرص أستاذنا المشرف ووعيه الكبير بازدواجية أبعاد قضية تناسب الوزن والغرض وأهميتها في الدرس النقدي. هذه القضية التي شغلت كثيرا من النقاد والدارسين، دون أن يلتفتوا إلى ازدواجية بعدها، وما تطرحه من نتائج تستدعي إعادة النظر في ما أنجز من أعمال سابقة في الموضوع، والتعامل مع نتائجها الراهنة بحذر شديد.

    فالنسب العامة التي تدلي بها المقاييس الاحصائية، على اختلافها، تغري بتتبع القراءتين من زاويتيها المنفصلتين، بلافيا لكل انتقاد أو نقص قد يشوب هذه الدراسة في غياب التوقف عند هذا الجانب.

    وتراعي خطتنا في هذا المحورن نفس الطريقة التي اتبعناها في رصد نتائج العلاقة الأفقية، حيث سنضع الدارس امام جداول ذات قيمة إحصائية عالية ومتنوعة، تمكنه من معرفة أوزان الغرض الشعري، واختلافها داخل نفس الغرض.

     وستتجلى أهمية هذا المبحث في مساءلته للإتجاهات النقدية التي تناولت بالدرس علاقة الغرض بالوزن، وذلك من خلال طرح بعض الإشكالات المفيدة في بحث الموضوع وتعميقه ومحاولة ال‘جابة عنها، عن طريق استدعاء بعض النصوص الشعرية التي يغلب عليها طابع النموذج الشعري، وتسمح بها النتائج الإحصائية المتنوعة لديوان الشعر الأندلسي ويدعمها الواقع الإحصائي لديوان الشعر العربي.

      ويتناول هذا المحور الأغراض التي حظيت باهتمام الشعراء، وقبلتها الأذواق. وهي نفس الأغراض التي راج حولها الحديث في الدرس النقدي، ووقع عليها اتفاق جماعي، دون مراعاة لأصل أو فرع.  وذلك رغم وعي أحدهم باختلاف طرق الناس في الشعر وتباين أذواقهم وأساليبهم، ومنازعهم، ومآخذهم في جميع ذلك، وما تقتضيه القسمة الصحيحة من الاقتصار على الأقسام الأربعة التي هي: التهانين والتعازين والمدائح، والأهاجي.

     وهذه الأغراض هيك النسب، والمدح، والوصف، والهجاء، والرثاء، والفخر. أما بقية الأغراض في علاقتها بالأوزان الشعرية، فسنكتفي فيها بجداول خاصة توضح نسبها من المقاييس الاحصائية.

 

 

 

1 ـ الغزل:

    

يأتي الغزل في مقدمة الأغراض التي تداولها شعراء الأندلس، بوحدات معدلها (21.89%) وبنسبة أبيات لا تزيد عن (10.75%)، لتشكل هذا الغرض من مقطوعات شعرية بلغت نسبتها (26.06%)، دون أن تتجاوز نسبة (13.62%) من القصائد، أما نسبته من التداول، فتقدر بـ (92.52%).

         وكان قدامة بن جعفر قد ميّز بين النسيب والغزل، فخص الأول بـ " ذكر خلق النساء وأخلاقهن وتصرف أحوال الهوى به معهن".  وعرف الثاني بقوله: " والغزل إنما هو التصابي والاستهتار بمودات النساء". .

      وجعلهما ابن رشيق بمعنى واحد،  استنادا إلى رأي قدامة الذي يفهم من ظاهره أن "الغزل هو المعنى الذي إذا اعتقده الانسان في الصبوة إلى النساء نسب بهن من أجله، فكأن النسيب ذكر الغزل، والغزل المعنى نفسه". .

     ومن تم يظل التمييز بينهما ضروريا لفهم صلتهما بالأوزان الشعرية، ويتعلق الأمر بأنواع الغزل التي عرفها الشعر العربي بصفة عامة، والتي يمكن إجمالها في اتجاهين كبيرين:

-          اتجاه حسي .

-          واتجاه عفيف.

ونماذج الاتجاهين، إما حديث عن جمال المرأة ومفاتن جسدها وخفة روحها، أو  حديث عن الآلام التي يحس بها العاشق المهجور والحرقة  التي تعتمل في قلبه. وهي في بعض الأحيان مؤلمة تنضح بالقلق واليأس، أو ملذة تفيض بأمل اللقاء واجتماع الشمل، أو تجمع بينهما معا.  يقول حازم: " فكل قول نسيبي لا يخلو من أن يكون متعلقا بوصف المحبوب ومحاكاته أو وصف بعض أحواله وما له به علقة من زمان أو مكان أو غير ذلك. أو يكون متعلقا بوصف المحب أو وصف  بعض أحواله وما له بذلك علقة، أو يكون متعلقا بوصف حال تقاسماها معا".

        وتدعم هذه القسمة آراء نقدية تناولت بوضوح ما يجب أن يعتمد من الأساليب والألفاظ والمعاني والأوزان، إذ قصد الشاعر إلى الغزل بمعنى النسيب وما يتعلق به من رقيق الشعر في النساء.

         ومعظم  هذه الأراء تؤكد أن "النسيب" الذي يتم به الغرض، "هو ما كثرت فيه الأدلة على التهالك في الصبابة، وتظاهرت فيه الشواهد على إفراط الوجد واللوعة، وما كان فيه من التصابي والرقة أكثر مما يكون من الخشن والجلادة، ومن الخشوع والذلة أكثر مما يكون من الإباء والعز"،  ودل على الحنين وشدة التأسف.

        ومن آرائهم في هذا الباب، أن يكون اللفظ مستعذبا رشيقا، حسن السبك، والمعنى رقيقا حلوا، لطيف المنازع، سهلا غير متوعر " وان يختار به من الكلام ما كان طاهر الماءن لين الأثناءن رطب المكسر، شفاف الجوهرن يطرب الحزين، ويستخف الرصين " .

       ولم يتناول أحد من النقاد، في حديثه عن الغزل الذي يميل إلى وصف مفاتن المراة والاستهتار بمودتهان في جرأة وصراحة تفيض بالشهوة العارمة، ما يليق بذلك من المعاني والألفاظ والأساليب والأوزان.

     وإبعاد هذا الاتجاه الحسي الفاحش عن دائرة النقد الشعري، لم يكن ليروق الناقد العربي لأسباب  دينية وأخلاقية.  ومن جانب آخر، فإنه لم يستطع إبعاد هذا النوع الغزلي عن متناول الشعراء.

       ولعل هذه النظرة الأحادية لشعر الغزل الذي أباحه الناقد العربي، هي التي أوحت لحازم القرطاجني بالقول بضرورة اختيار الشاعر للأوزان التي فيها حنان ورقة وضعف كذلك، يقول: "وأما المقاصد التي يقصد فيها إظهار الشجو والاكتئاب، فقد تليق بها الأعايض التي فيها حنان ورقة، وقلما يخلو الكلام الرقيق من ضعف مع ذلك، لكن ما قصد به من الشعر هذا المقصد، فمن شأنه أن يصفح فيه عن اعتبار القوة والفخامة، لآن المقصود بحسب هذا الغرض أن تحاكى الحال الشاجية بما يناسبها من لفظ ونمط تأليف وزن. فكانت الأعاريض التي بهذه الصفة غير منافية لهذا الغرض، وذلك نحو المديد والرمل".

       وإذا كان شعر "حازم" لا يخالف هذه النظرة النقدية، فإن الشعر الأندلسي عرف جميع ألوان الغزل التي شاعت في المشرق. "ولم يكن صادقا كله، بل كان جله لونا من ألوان البراعة الفنية، والتباهي  بالمقدرة الشعرية، والغلبة في التفوق على الأقران من الشعراء، فصار يحمل آثار الفكر الكادح، ولونا من الرياضة العقلية، والترف الثقافي والذكاء الإجتماعي"،  وأسهم فيه الحكام ومن يلوذ بهم، كما أسهم فيه خاصة الشعراء وعامتهم، وقد ظل الاتجاه المحافظ يتراءى في جميع أنواعه، وربما ليس بدافع من التقليد، بل لأنه يتلاءم مع واقع الشعراء، وتنوع أحوالهم واتجاهاتهم.  لكل ذلك، لم يكن غريبا أن تتعدد أوزانه، وتتباين نسبها كما يتضح من الاستنتاجات التالية:

 

إن نظرية حازم وأنصاره من المحدثين، لا تتضح في الغزل وضوحا يمكن من القول بها، واتباع شعراء الأندلس لها، حيث يتبين من الاحصاء، في جميع مقاييسه المعتمدة، أن "الغزل" ناسب مجموعة من الأوزان الشعرية ذات أوصاف وخصوصيات موسيقية لا تتماشى في معظمها مع ما صرح به أصحاب نظرية تناسب الأوزان والأغراض الشعرية.

     ويأتي "الطويل" في مقدمة هذه الأوزان، حيث تصل نسبه إلى (25.73%) من الوحدات، و(30.09%) من الأبيات، و(23.46%) من المقطعات، و(34.36%) من القصائد، و(88.88%) من التداول. ولم يسجل غيابه سوى عند أبي إسحاق الألبيري، وابن عبدون، وحازم القرطاجني.

        ويحتل "الكامل" الرتبة الثانية، بوحدات معدلها (17.09%) وبنسبة (16.26%) من الأبيات، و(17.65%) من المقطعات، و( 14.97%) من القصائد، و(85.18%) من التداول. ثم يليه "البسيط" في الرتبة الثالثة، بنسب تقدر بـ (13.05%) من الوحدات، و(13.23%) من الأبيات، و(13.70%) من المقطعات، و(10.57%) من القصائد، و(85.18%) من التداول.

        وتمتاز هذه الأوزان إلى جانب طولها بالقوة والشدة والجزالة، وهي لا تصلح - في نظر حازم – إلا لمقاصد الجد،  وإن تعلق الأمر بالغزل. فهذا عبد الله الطيب يقول بصدد الطويل: " ولما كان الطويل بحر جد وعمق فإن مجرد العبث الغزلي لا يكاد يستقيم فيه...وإنما يصلح فيه الغزل إذا ما زجته نفحة من جد وعمق".

ولعل إحساس حازم القرطاجني بخاصية هذه الأوزان الموسيقية وما يلائمها من الأغراض الشعرية التي تذهب مذهب الجد والعمق، هو الذي جعله يتنكبها إلى جانب الغزل بصفة نهائية لا تتضح إلا في بيت شعر يتيم من وزن البسيط، يقول فيه: 

سلطان حُسْنٍ عليه للصِبا علم            إذا رأته جيوش الصبر تنهزمُ

وهذا البيت لا يخلو من نفحة جد وعمق، فهو يستوحي معانيه من معجم المدح، وما يتصل بألفاظه وأساليبه وصوره وأوزانه. ومن نماذجه في الشعر الأندلسي قول المعتمد بن عباد من الطويل: 

أدار النوى كم دار فيك تلددي             وكم عقتني عن دار أهيف أغيد

حلـفت به لو تـــــعــــرض دونه           كماة الأعادي في النسيج الـمسرد

لجردت للضرب المهند فانقضى           مرادي، وعـــزما مثل حد المهند

ومن أمثلة أيضا قول يوسف الثالث في نفس المعنى: :

              جُفُــــونُ لِحاظٍ أم جـفــــون سـلاح            وسُمْرُ قدودٍ أم نصول رماحِ

              لها الغارة الشعـــواء يفعل حـــدُّها             بأفْــئِــدَةِ العشاق فعل صفاحِ

              وتقصرُ عنها المرهفات إذا انْبَرَتْ           إلى ملــتقى الأبطالِ يوم كفاحِ

والحقيقة أن هذه النماذج – على كثرتها في الشعر الأندلسي – لا تعني القول المطلق برأي حازم، وعبد الله الطيب. فهناك من شواهد العبث التي ناسبت هذه الأوزان، ما يدحض رأيهما ويقلل من قيمة نظريتهما واستقرائهما للموضوع.

يقول الشاعر (الطويل):

                  أبــو طالب في كـــفه وبخـده             أبـــو لهــب، والقــلب منه أبـــو جهل

                  وبنــتــا شعيب مقلتاه، وخاله             إلى الصدغ موسى قد تولى إلى الظل

ومن نماذج الكامل، قول ابن سهل أيضا: 

              والنجم في خذ الحبيب إذا هوى             ما ظل قلبي عن هواه وما غـــوى

ونموذجه من البسيط، قول ابن عبد ربه: 

              خرجت أجتاز قفرا غير مجـتاز             فصادني أشهل العينين كالبازي

              صقــــر على كــفه صقر يؤلفه              ذا فوق بغـــل وهذا فــوق قفــار

    وقد كان عبد الله الطيب – فيما يبدو – على وعي بتنوع الطرق الشعرية، وتباينها داخل حقل الغزل بتباين الشعراء واختلاف أمزجتهم، وميولهم الشخصية، لذلك وجدناه يسير في اتجاه المبادئ العامة التي سطرها حازم القرطاجني، ويلين من موقفه بخصوص الكامل والبسيط، فيجعلهما يلينان في مواقف اللين، ويشتدان في مواقف الشدة.

     ولم يكن سليمان البستاني على هذا المستوى من الوعي بحقيقة هذه الأوزان ومدى ملاءمتها أو عدم ملاءمتها للغزل، بل إن كل ما ورد له في الموضوع لا يتجاوز قوله أن الكامل " إذا دخله الجذذ، وجاد نظمه بات مطربا مرقصا، وكانت به نبرة تهيج العاطفة ... وهو كذلك إذا اجتمع فيه الحذذ والاضمار".

    ومثل هذا الرأي لا يحتاج إلى إيراد شواهد في الغزل، لبحث مدى صحة إطرابها ورقصها، لأن هاتين الصفتين يمكن أن تطالعنا في أماكن متعددة من أغراض الشعر العربي.

ولا بأس أن نشير في هذا المقام إلى أن الطابع الغالب على هذه الأوزان ، هو إظهار الحزن والآلام التي يتكبدها الشاعر عند صد محبوبته وهجرها او بعدها وانفصالها، وما يخلفه الهجر والفراق من تعلق وشوق شديد إلى المحبوبة كقول ابن زيدون:   ( طويل )

أجــد، ومــن أهــواه في الحـــب، عابث            وأوفــــي لـــــه بالعـــهد، إذ هــــو ناكت

حبيب نأى عني – مع القرب – والأسى            مقـــيــــم له في مضمر القــلب ماكــــث

جــفـــانــي بإلطـــاف العـــــدا، وأزالـه              عن الوصل – رأي في القطيعة – حادث

تغيرت عــــــن عهدي، ومازالت واثقا               بـــتعـــهدك، لــكــــن غيــرتك الحوادث

وما كنت – إذ ملــــكتك القلب – عالما               بــــــأني – عن حتفي – بكـــفي بــاحث

فديتك، إن الشـــوق لي – مذ هجرتني               مميت، فهــل لي – من وصالك – باعث

ستبلي اللـــيالي – والــــــوداد بحــــاله             جــــديــد – وتفــنى وهو للأرض وارث

ولـــــو أنني أقســـــمت، أنــــــك قاتلي             وأنــــي مقــــتـــول، لما قــيل: " حانت "

      وفي مثل هذه المواقف، غالبا ما يلجأ الشاعر إلى تذكر أيامه الماضية السعيدة، حين كان يصل محبوبته فيسرد في جرأة وصراحة مغامراته، وقطعه للمخاطر أيام شبابه وفتوته. وقد يركز – في مثل هذه القصائد – على وصف المشاعر المتبادلة بينه وبين محبوبته في أسلوب قصصي يتناسب والأوزان الطويلة، فيقول مثلا:   (بسيط )

وكــــم لــــيـــال قطـعناها بكـــــاظمة                نجوى وشكوى بما يلقــــاه مضناك

كتمت مسراك فيها خوف عـــــــــاذلة               وعـــاذل فـــأذاع المسك مســــراك

غنى الوشاح على خصريك من طرب              فيها فأصغى لما غناك حـــجــــلاك

وقـــــد عففت على حــرصي، بآية ما                  بذلت طوعان فلم أعرض لهن فاك

أو يقول على لسان " أم المجد " وقد أسر إليها بما يلقاه من صاحبته من جفاء وإهمال:   (طويل)

                   فقالت أشك إليها ما لقيت ولا             تــــــرهب فلن تبلغ الآمال بالرهب

                   عسى هواك سيعديها فيعطفها            فقد يكون الهوى أعدى من الجرب

   وهو في بعض الأحيان، كان يكتفي بوصف مفاتن محبوبته، فيتناول جسدها عضوا عضوا، في إطالة واستفصاء حينا، وإيجاز وإشارة حينا آخر، أو يتجاوز ذلك إلى ذكر ما تخلفه هذه المفاتن من حب وشهوة في نفسه، نحو قول ابن زقاق من الكامل:

               أترى مخصرها أعير سوارها            والجيد لؤلؤ ثغــرها البراق

               فتطـــوقت من ثغرها بقــلادة             وتوشحت من حليـها بنطاق

ونحو قول ابن فركون من الطويل: 

               وقد كان قلبي يحذر الحب جهده          وما كان ذاك الحــــذر إلا ليسلما

               إلـــى أن بـــتدا للقلب لــما بداله          محيا يفوق الشمس في أفق السما

               ولله در راق من ثـــــغرها الذي          سقاني كؤوس الحب حين تبسما

    وهذه الطرق وإن كانت تختار من رقيق اللفظ ورقيق المشاعر ما يتناسب مع الغزل،  فإن حضورها بصفة مكثفة في هذه الأوزان، لا يدع مجالا للشك بالتزام الشاعر الأندلسي للإطار الشكلي الذي تميزت به المقدمة الغزلية، في اتجاهاتها المختلفة، قبل أن تستقل بنفسها عن القصيدة المدحية، ناهيك عن الأثر الفعلي الذي مارسته هذه الأخيرة على أغراض الشعر العربي في اختيار الأوزان الطويلة التي تذهب مذهب الخطابة والإقناع.

    ولا نبعد إذا قلنا إن هذا الاختلاف في الطرق الشعرية، كما هيأت له عوامل مختلفة لاختلاف الشعراء وتوجهاتهم حينا، وتعددها حينا آخر، قد تكررت نماذجها بشكل متفاوت النسب بين مجموعة من الأوزان، تجمعها أوصاف  أخرى تميل بالكلام إلى الاعتدال على عكس ما يوجد فيه مع غيرها من الأوزان القوية العارضة وصلابة النبع.

   وهذه الأوزان هي: الخفيف والسريع والوافر والمتقارب. وكان من المفروض حسب رأي بعض الدارسين والنقاد،  أن تتصدر هذه الأخيرة قائمة الأوزان التي ناسبت الغزل، نظرا لما تمتاز به من خصوصيات موسيقية تشاكل هذا النوع من الأغراض الشعرية. وتأخرها في الغزل الأندلسي لا يلغي صلاحيتها بالمرة، بقدر ما يدل على توسط نسبها داخل هذا الحقل، حيث يأتي "الخفيف" في الرتبة الرابعة بمعدل (7.35%) من الوحدات، و(6.42%) من الأبيات، و(7.43%) من المقطعات، و(7.04%) من القصائد، و(74.07 %) من التداول.

      ويأتي "السريع" في الرتبة الخامسة بفارق لا يتعدى (0.27%) من الوحدات، و(7.40%)من التداول، ويزيد في الأبيات بـ (0.54%). ويحتل "الوافر" الرتبة السادسة بمعدل ينزل إلى (4.87%) من الوحدات، و (4.29%) من الأبيات، و(5.22%) من المقطعات، و(3.52%) من القصائد، و(51.85%) من التداول. ولا ينقص "المتقارب" عن "الوافر" إلا بوحدتين فقط، وتأتي نسبه كالتالي: (4.68%) من الوحدات، و (3.98%) من الأبيات ، و( 4.87%) من المقطعات، و (3.96%) من القاصائد، أما نسبة تداوله فترتفع إلى (66.66%).

   ولا يأتي "الرمل" و"المديد" على ما فيهما من رقة وحنان وضعف، تجعلهما أنسب لهذا الغرض،  إلا في مرحلة متأخرة.

فالأول احتل الرتبة الثامنة بوحدات معدلها (3.30%)، وبنسبة أبيات تصل (4.34%)، وهي موزعة ما بين (2.90%) من المقطعات، و (4.84%) من القصائد. ورغم ارتفاع نسبة تداوله إلى (55.55%)، فإن استعمالاته الفردية بقيت محدودة في ما دون خمس وحدات، بحيث لا تتجاوز في مجموعها ستا وعشرين قصيدة ومقطوعة شعرية.

    واحتل "المديد" الرتبة الثانية عشرة بوحدات معدلها (1.37%) من المقطعات، و(0.44%) من القصائد، و(18.51%) من التداول. ويأتي ابن عبد ربه على رأس الشعراء الذين ناسبوا بين هذا الوزن وغرض الغزل، حيث وصل به إلى عشر وحدات شعرية.

أما "المنسرح" الذي وصفه عبد الله الطيب بالتخنث،  لشيوعه بين طوائف المرققين في العصر الأموي، وقلته عند شعراء الفخامة، أمثال كثير، والأخطل، والقطامي ، وجرير، وابن الرقاع، والفرزدق،  فإن نسبته من الغزل في الشعر الأندلسي لا تتجاوز (2.02%) من الوحدات. وهي نسبة تقعده في الرتبة العاشرة، حيث لا تتجاوز (1.59%) من الأبيات، و(2.09%) من المقطعات، و(1.76%) من القصائد. ورغم ارتفاع نسبة تداوله إلى (48.14%)، فإن استعمالاته الفردية لا تزيد عن أربع وحدات شعرية، بل هي دون ذلك عند أغلب الشعراء.

    ويمثل قول الحكيم أبي الصلت الداني – إلى حدما – نموذجا صادقا على تخنث المنسرح: 

                 أقبل يسعى أبو الفوارس في            مــرأى عجـــيب ومنظر أنق

                 أقبل في قــرمـــزيـة عجـب             قد صبغت لون خـده الشرف

                 كأنـــمــا جــيــده وغـــــرته            من دونها إن برزت في نسق

                 عـــمــود فــجــر فــويقه قمر             دارت به قطعة من الشفـــق

    وإذا كان هذا الشاهد يطبعه نوع من التخنث، يستشف من هذه الأوصاف التي ألصقها الشاعر بغلامه، والتي تفصح عن أنوثة ظاهرة، تعلقت بمشيته، أو بلباسه، أو بمنظره، إلى غير ذلك من الأوصاف التي تضمنتها هذه المقطوعة، فإننا لانعدم أن نجد أوصافا أخرى لهذا الوزن، كان على عبد الله الطيب أن يعمل على اكتشافها وإبرازها من خلال تحليليه لنماذج من أغراض الوزن الواحد، بدل القيام بمقارنات خارج هذا الوزن.

ولا أدل على ضيق رؤيته لوزن المنسرح، من تلك الانتقادات التي وجهت له من قبل دارسين، تفصح عن مفارقات وخصوصيات مختلفة لهذا الوزن، سواء داخل هذا الغرض أو خارجه. 

وكما يلاحظ، فإن نتائج رقيق غزل هذه الأوزان الثلاث، يأتي على عكس ما تمليه الدراسة الأفقية،  ويدعمه الواقع النظري، شانها في ذلك شأن بقية الأوزان التي يختصرها الجدول، بما في ذلك الأوزان المجزوءة والقصيرة.

        وكان عبد الله الطيب على وعي كبير باتساع الغزل لهذه الأوزان الأخيرة، حيث ذكر منها: المتقارب القصير، والمقتضب، والمنسرح القصير، والبسيط المنهوك، والهزج، والرجز، ومجزوء الرمل، والمجتث، ومجزوء البسيط، ومخلعه.  ولم يشد عن استقرائنا إلا فيما يتعلق بمجزوء الوافر، ومشطور الرجز، ومنهوكه، ثم بإضافته لمنهوك البسيط، والمضارع.

وهو في كل ذلك، نادرا ما كان يقف عند بعض الشواهد الشعرية، يستفتيها الرأي فيما يخص موسيقية هذه الأوزان وما تستدعيه من أغراض شعرية.

    أما سليمان البستاني، فلم يكن قد تعرض لواحد من هذه الأوزان إلا من خلال إشارة عابرة، يقر فيها بصلاحية المضارع، والمقتضب، والجتث، والهزج، للأناشيد والتواشيح الخفيفة.

وعلى العموم، فإن نسب هذه الأوزان الأخيرة، لا تفيد علاقة وطيدة بينها وبين الغزل، رغم خضوعها لنفس الاتجاه الذي سارت فيه المقطوعة الغزلية من حيث الرقة والضعف وقصر الوزن. وتؤكد هذه الحقائق التي أتينا على ذكرها، النتائج  الاحصائية التالية:

    وهي نتائج  تقلل بدورها من قيمة القواعد النظرية، والتقريرات الإجمالية المتسرعة، وتتجاوز بنتائجها الأحكام الانطباعية التي لا تستند إلى دليل علمي.

    فهي لا ترى استدعاء "الغزل" لأوزان فيها حنان أو رقة، أو لأوزان قصيرة، كانت قد تطلبتها موجات الغناء، فتسربت إلى الشعر إلى الأندلسي بعد شيوع مجالس الطرب وألوان الغناء واللهو والمجون، فمالت به عن الأوزان الطويلة تأثرا بالنهضة المشرقية. 

     وقد رد كل من عبد القادر القط، وصالح بن رمضان على هذا الادعاء انطلاقا من تناولهما بالاحصاء لشعر عمر بن أبي ربيعة.  في حين تركز رد حسين بكار على أشعر بشار بن برد، ومسلم بن الوليد، والعباس بن الأحنف، والحسين الضحاك ومطيع بن إياس.

ولا جدال في أن "الغزل" قد تأثر بالغناء، ولكن في تلك الحدود التي تخلق عند الشاعر حسا عاما بموسيقى العصر، دون أن تؤثر تأثيرا مباشرا في صوره وأساليبه وموسيقاه.

    ونستطيع أن نقول بعد هذا الجرد الاحصائي المتنوع أن الشاعر الأندلسي – كغيره من القدامى – لم يكن  يتخذ للغزل وزنا خاصا يلتزم به في قصائده ومقطوعاته بالأحرى أن يلتزم بهذه الأوزان القصيرة والمجزوءة وهي التي لم تصادف شيوعا موسعا بين الشعراء.

    إلا أن السؤال الذي يظل مطروحا بعد ذلك، هو هل كان هؤلاء الشعراء صادقين في التعبير عن أحاسيسهم  حتى يتسنى لنا القول برؤية الاتجاه الايقاعي التي تترك الاختيار للحالة النفسية التي يحياها الشاعر ساعة النظم؟

قديما تنبه الناقد العربي إلى ما يشبه الحديث عن التجربة الشعرية بالمفهوم الحديث، إلا أنه لم يلزم فيها الشاعر بضرورة الاخلاص في التعبير عن تجربته الذاتية، كما يستفاد من حديثه عن قضية الصدق والكذب في الشعر بصفة عامة،  ومنه الغزل بصفة جاصة . يقول قدامة بن جعفر في معرض كلامه عن نعت النسيب: " ووصف الششاعر لذلك هو الذي يستجاد لا اعتقاده إذا كان الشعر إنما هو قول، وإذا أجاد فيه القائل لم يطالب بالاعتقاد". 

    فلا مجال لعقد مقارنة بين الفهم القديم للقصيدة الشعرية، وبين فهم المحدثين لها. إلا أننا لا نجادل في صحة الرأيين ونسبيتهما، والأخذ بأحدهما يعتبر جناية في حق الآخر، فهناك نصوص كثيرة من الغزل لم تكن بدافع تجربة ومعاناة حقيقية، وإنما كانت بدافع الرغبة في إبداء الشاعرية والقدرة على الاغتراف من كل لون شعري.

      وإذا كانت علاقة الوزن بالحالات النفسية لا تتضح في مثل هذه الأشعار، فإن الاقتراب من النصوص التي عبر فيها الشعراء عن تجاربهم الشخصية، تسمح بتقسيمها ـ حسب رأي الاتجاه الايقاعي ـ إلى نمطين من الأشعار:

ـ نمط يحتفظ لنفسه بأوزان كثيرة المقاطع، في حالة اليأس والجزع.

ـ ونمط يحتاج إلى أوزان قصيرة المقاطع، في حالة السرور والبهجة، أو إذا قيل الشعر وقت المصيبة والهلع. ومن بين أشعار النمط الثاني ما اصطلح عليه إبراهيم أنيس "بالغزل الثائر". فقد ذهب هذا الأخير إلى القول: "أما الغزل الثائر العنيف الذي قد يشتمل على وله ولوعة، فأحرى به أن ينظم في بحور قصيرة أو متوسطة وألا تطول قصائده ". 

وكان بودنا أن نضع القارئ أمام مجموعة من النماذج الشعرية، نوضح من خلالها مدى صحة رأي أنيس، لولا الغموض الذي شاب اصطلاحه. فهو لم يبصرنا بحقيقة الغزل الثائر، ولم يقدم لنا سوى مؤشرات خارجية تستند إلى الوجدان وإلى قصر النفس الشعري من حيث أوزانه وعدد أبياته. لذلك تجدنا نطرح السؤال التالي : هل كل غزل قيل في الأوزان القصيرة أو المتوسطة، دون أن تطول أبياته، يعتبر غزلا ثائرا؟ إذا كان كذلك، فماهو موقع القصائد التي جاءت من هذه الأوزان؟

   إن قراءة الجدول الإحصائي بمقطعات الغزل الأندلسي وقصائده، تؤكد أن ابراهيم أنيس جانبه الصدق – إلى حد ما – من ناحية تعلق هذه الأوزان  بالمقطوعات القصيرة.  لكن إذا حاولنا الاقتراب من جسد هذه المقطوعات، فإننا لن نجد ما يؤكد اطراد رأي أنيس في الموضوع.

ويعود احتضان أوزان هذه المقطوعات لحالات انفعال متنوعة، إلى تعدد تجارب الشعراء، واختلافها باختلاف أحوالها الشخصية وظروفهم الاجتماعية والسياسية.

    فهذا "ابن عبد ربه" ـ على سبيل المثال ـ أكثر شعراء الأندلس ميلا في الغزل إلى المقطعات والأوزان القصيرة المجزوءة،   لا يشارك "ابن زيدون" في تجربته الشعرية التي كانت وليدة حبه لولادة، ولتطلعاته السياسية،   ولكنه لا يتوانى في ركوب نفس الأوزان التي اتخذها ابن زيدون مطية للتعبير عن شدة انفعاله.

يقول من مجزوء الخفيف: 

                      أشرقـــت لــــي بــدور      فــــي ظـــلاتم تـــنــــيــر

                      طـــار قــــلبـــي بحبها      مـــــن لقــــلبـــي يطــيــر؟

حيث صور نفسه بصورة الطائر المنتشي الطرب بحبه، وهو بذلك يفارق ابن زيدون في تجربته حين يقول من المجتث: 

                         متى أبـــثــــك مــا بــي     يـــا راحـــتـي وعــذابي

                         متى يــنـــوب لســـانـي     في شـــرحه عن كـتابي

ثم استمع إليه يقول، وقد تطاول به العمر وأدركته الشيخوخة، يعبر عن انفعال ممزوج بالهدوء والثورة لفقدان أيام الشباب والوصال:   ( مجزوء البسيط )

                    يا طالبا في الهوى ما لا ينال        وسائلا لم يعف ذل الســـؤال

                   ولت ليــالي الصبــــا محمودة        لو أنها رجعت تلك اللــــيالي

                   وأعقبتها التي واصــــــــلتــها        لاهجر لما رأت شيب القذال 

                   لا تلتمس وصــــلة من مخلف        ولا تـــكـــن طاـلبا مالا ينال

  إن هذه الرؤية الطربية  التي صدر عنها ابن عبد ربه لم تفارق جل قصائده ومقطوعاته. وقد جاء نصيس الأوزان الطويلة منها أوفر حظا من الأوزان القصيرة والمجزوؤة.

يقول:   ( من الطويل )

           معــــتذبتــي رفـــقا بــقــلب مــعـذب           وإن كـــان يرضـــك العذاب فعـــذبي

           لعـــمري لقد باعــدت غير مـباعـــد            كما أنـــني قـــربت غيــر مــقـــــرب

           بنــــــفـــسي بدر أجمل البدر نــوره            وشمس متى تطلع إلى الشمس تغرب

           لو أن امرئ القيس بن حجر بدت له            لمـا قــال: " مـــرا بي على أم جندب"

ويكشف هذا النموذج عن تجربة مخالفة لتجربة ابن زيدون في قصيدته المتقاربية: 

            ليــن قصر اليأس منك الأمــــــــل            وحــــــال تجـــنيك دون الحـــــيل

    فقد علق عباس الجراري على هذه القصيدة، فقال: " نحس من خلال تقطيعها أنها تعبر عن انفعال هادئ وشعور متزن"،  يخالف إيقاع قصيدتين له من نفس الوزن، يعبر إيقاعها السريع، عن جيشان عاطفة، وتعجل في نيل ما تهفو له نفسه من متع.

    ولا أدل – كذلك – على قصور رأي إبراهيم أنيس وعدم اطراده، من تلك القصائد والمقطوعات الشعرية التي كانت وليدة صناعة كلامية لا تسمح بتلمس هذه العلاقة، ناهيك عن الاستدراكات التي طالت فهم أنيس للموضوع على يد كل من عز الدين إسماعيل، ومحمد غنيمي هلال، ومحمد النويهي. وإحساس الأولين باتساع الوزن الشعري لحالات متنوعة من الانفعال النفسي،  هو الذي قاد ثالتهما إلى القول: "إن البحور المختلفة، وإن لم تختلف في نوع العواطف التي تصلح لها فهي تختلف في ( درجة)  العاطفة ".

وعلى كل حال، فلسنا مؤهلين لمعرفة أي درجات الحالات النفسية، ينتمي "الغزل" الذي قيل في هذه الأوزان التي أتينا على حصرها، فالتحليل المقطعي يظل دائما في حاجة لمعرفة جرس الألفاظ ودلالتها، ولن يتسنى ذلك إلا عن طريق معالجة غزل هذه الأوزان من منظور ايقاعي محض لا يغفل جانبا من جوانب البنى الايقاعية.

    ولكننا نستطيع أن نؤكد من خلال هذه الاحصائيات على احتفاظ الغزل الأندلسي بصلاحيته للأوزان الطويلة التي ظل لها قصب السبق على مستوى الشيوع بين أوزان الشعر العربي وأغراضه، وخاصة: الطويل، والكامل، والبسيط، إلى جانب الخفيف، والسريع والوافر، والمتفارب، بنسب متوسطة إلى ضعيفة، أو شبه منعدمة في غيرها من الأوزان القصيرة أو المجزوءة.

 

 

 

 

2 ـ المدح:

         المدح في اللغة هو الثناء الحسن، والمدائح جمع المديح الذي يمدح به.  كان قدامة بن جعفر قد قدم له في باب المعاني الدال عليها الشعر بقوله: "إنه لمدح الرجال بهذه الأربع  الخصال مصيبا، والمادح بغيرها مخطئا".  حيث لا تجد ما يطعن في جدة هذه الفضائل التي عليها مدار المدح، أو ما يتفرع عنها من انواع وأقسام،  وأوصاف عرضية، أو جسمية كانت موضع خلاف،  غير ما يتعلق بقضية المقام، وذلك لاختلاف طبقات الممدوحين، وتباينهم في الارتفاع، والاتضاع، وضروب الصناعات، والتبدي والتحضر، فكان من الواجب أن يمدح الرجل بما يكون له وفيه، وبما يليق به، ولا ينفر عنه.

     وفيما يتعلق بالبناء الداخلي لقصيدة المدح، روعي "أن تكون ألفاظه ومعانيه جزلة مذهوبا بها مذهب الفخامة في المواضع التي يصلح فيها ذلك. وأن تكون فيه مع ذلك عذوبة ورقة"،  إذ لا بأس ان ينحرف ذو الجد إلى طريقة الهزل، على جهة المزح والدعابة حين يليق ذلك بالحال والموطن، "فإن الكريم قد يطرب وقد يحتاج إلى أطرابه".

   وقد التزم الشاعر العربي بهذه الرسوم والقوالب، حتى فيما يتعلق بطول القصيدة،  وما يتقدمها من نسيب أو غيره،  وفق ما يمليه نقد الشعر الذي سار في كثير من شرعته في ركاب الممدوحين وأهوائهم.

     وهكذا ساعدت ظاهرة التكسب، إلى جانب عوامل أخرى،  على ازدهار المديح، فاحتل في الشعر الأندلسي الرتبة الثانية، بوحدات معدلها ( 21.05%)، ثم الرتبة الأولى من حيث عدد الأبيات، بمعدل (49.13%). وبلغت نسبته من المقطعات (10.50%)، وفي القصائد (41.96%). أما نسبة تداوله، فارتفعت إلى الرتبة الأولى بمعدل (96.29%)حيث لم ينظم منه سوى أبي الحسن الششتري.

         ولما كانت الأوزان مما يتقوم به الشعر، وتعد من جملة جوهره،  وجب أن يحاكى هذا الغرض بمناسبة من الأوزان، ويخيله في نفس متلقيه لبعثه على المكافأة وهزه للسماح.  وفي ذلك يقول حازم: أن المقاصد " التي تحتاج إلى جزالة نمط النظم يجب أن تنتظم في سلك الأعاريض التي من شأن الكلام أن يكون فيها جزلا نحو عروض الطويل والكامل"  و"البسيط" باعتباره كذلك من الأعاريض الفخمة التي تصلح لمقاصد الجد.

 فهل وفق الشاعر الأندلسي في اختيارهذه  الأوزان؟

          لقد حاول حازم أن يسير في مدائح ديوانه على هدي الخطوات النظرية، فجعل "الكامل" في مقدمة هذه الأوزان بثلاث عشرة وحدة شعرية،  موزعة ما بين ثلاث مقطوعات وعشر قصائد، مجموع أبياتها خمسمائة وستة وسبعون (576) بيتا، ثم جاء "بالطويل" في الرتبة الثانية، فوزعه ما بين مقطوعتين وثمان قصائد،  مجموعها من الأبيات خمسمائة وثمان وخمسون (558) بيتا، ولم ينظم من "البسيط" سوى خمس وحدات شعرية،  مجموع أبياتها مائتان وثلاثة وسبعون (273) بيتا شعريا، وهي موزعة عنده بين مقطوعة واحدة وبين أربع قصائد، مكنته جميعا من احتلال الرتبة الثالثة.

        ومن تتبع كلام الشعراء في جميع هذه الأعاريض، وجد الكلام الواقع فيها لا تختلف أنماطه من حيث الجلالة، والفخامة، والبهاء، والقوة، والجزالة، وما يخالطها من عذوبة ورشاقة.

وإذا تقدمنا خطوة إلى عموم المديح الأندلسي وأوزانه، فإننا سنلاحظ اتساع الغزل لأوزان، توضح أن حازما الناقد، قد جانبه الصدق إلى حد كبير في ما انتهى إليه من ضرورة تناسب الأوزان الباهية والأغراض الجادة، وهي هنا لا تخرج عن "الطويل" و"الكامل"، و"البسيط "، على اختلاف نسبها الفردية، وعلاقتها بالمدح إنتاجا وتداولا.

وتشكل في مجموعها نسبة (71.68%) من الوحدات، و(77.63%) من الأبيات، و(61.65%) من المقطعات، و(76.67%) من القصائد. وتبلغ نسبها من التداول (88.88%) في الطويل، و( 77.77%) في كل من الكامل، والبسيط.

     والجدير بالذكر، أن الشعراء الذين تنكبوا هذه الأوزان في مدائحهم، وخاصة وزن البسيط، لم يُعْرَفُوا بإكثارهم من المدح، بل إن أبا الحسن الششتري قد استبعده بصفة نهائية من أشعاره. ومن جهة أخرى فإن الغياب لم يستطع أن يقلل من أهمية هذه الأوزان في علاقتها بغرض المدح.

ولم يكن سليمان البستاني قد أشار في صراحة إلى صلاحية هذه الأوزان لغرض المدح،  كما هي عادة عبد الله الطيب حين يعرض لوزن من الأوزان الشعرية. فقد أبان هذا الأخير عن أوزان أخرى تشارك الطويل، والكامل، والبسيط في صلاحيتها لغرض المدح، فذكر "السريع الثاني، والثالث"، و"الكامل الأحذ المضمر"، وذكر "المنسرح"، و"الخفيف"، و"المتقارب" و "الوافر".

وإلى قريب من ذلك، انتهى إبراهيم أنيس، ومحمد غنيمي هلال. يقول أنيس: "أما المدح فليس من الموضوعات التي تنفعل لها النفوس، وتضطرب لها القلوب، وأجدر به أن يكون في قصائد طويلة وبحور كثيرة المقاطع كالطويل والبسيط والكامل".

       وذهب غنيمي هلال إلى القول بأن الشاعر " قد يقع على البحر ذي التفاعيل الطويلة... لملاءمة موسيقاه لأغراضه الجدية الرصينة من فخر وحماسة ودعوة إلى قتال أو ما إليها، ولهذا كانت البحور الغالبة في الأغراض القديمة هي: الطويل، والكامل، والبسيط ، والوافر".

وحكمهما يتضمن صلاحية " المدح " لكل الأوزان الطويلة، إلا أنه يلغي كما مهما من القصائد المدحية التي قيلت في هذه الأوزان، وأمام هذا القصور تجدنا نعمل على توسيع دائرة الإتجاه الذي ينتمي إليه كل من الدارسين، فنقول إن الشاعر في حالة اليأس والجزع ، يختار أوزانا طويلة،  ذات مقاطع كثيرة تناسب العاطفة الشعرية وحركاتها المتتابعة في استنفاد سائر الوزن لكل ما يريد الشاعر إبلاغه عن ممدوحه.

ويتضمن رأي هذا الاتجاه:

- قصائد مدحية لا تنفعل لها النفوس، ولا تضطرب لها القلوب، وهي ـ في نظر إبراهيم أنيس ومحمد غنيمي هلال ـ أخص بالأوزان الكثيرة المقاطع، وبالقصائد الطويلة حسب فهم أنيس وحده. 

- وقصائد مدحية تنفعل لها النفوس في حالة اليأس والجزع وهي ـ في نظر الاتجاه الايقاعي ـ أخص بالأوزان الطويلة كذلك.

      وتعتبر القصائد التكسبية التي تشد رحالها إلى الممدوح دونما إشارة إلى متاعب السفر وأهواله،  نموذجا صالحا للأخذ برأي الدارسَين الأوَّلَين وذلك لخلوها من صدق العاطفة والشعور والوفاء. ويمكن أن نمثل لذلك بقول "ابن فركون" وقد وجه إليه يوسف الثالث بيتي شعر أولهما: "وكم عائد"، وأمره بالتصدير لهما والتدليل عليهما بحسب الغرض في الإنحطاط  عن الجزالة، وفي قريب من التاريخ:  [ الطويل ]

  

            ومدحي على من جاد قبل سؤاله        ومن أركب الامال وهي ركوب

           هـو الملك العلى الهمام الذي غذا         لـــديه مجــال العز وهو رحيب

            فيــهمي نداه كــلمــا بخــل الحيا         وإن مطل الإ صباح عنه يـنوب

            فتســعف قصـاد وتقضي مآرب         ويمرع من ربع العـفـاة جـديــب

            ينــــم من المداح طيــب ثنــائــه         فـــتــنـعم أسمــاع بــه وقـلــوب

            أمـولاي عذرا إن وصفك معجز         ولـــوجــاء بشــار بــه وحبيـب

            ولكــنــني أرجوك في كـل حالة         على أن من يرجوك ليس يخيب

            فكـــل مَــرامٍ أبــتــغــيه مــبــلغ          وكـــــل بعـــيد أرتجـــيه قريب

        ونماذج هذا اللون الشعري لا تخلو من أعاريض البسيط، والكامل، وهي في جميع ذلك، تمتاز بالرصانة وإعمال الفكر والروية في اختيارها لما يتطلبه المقام من معان شعرية، وما يلحق بها من ألفاظ وأساليب، كان قد سلكها من تقدم درب المديح، ليس فقط اجدتراما لهذه القوانين التي استجمعها الناقد العربي من شتات الشعر الجيد، بل نزولا عند رغبة الممدوح وذوقه.

       وهكذا انعكس هذا التضييق على نبض القصيدة المدحية فجاء فاترا، خاليا من كل معاناة شعرية صادقة، حيث لم يعد الشاعر يلتفت في قصيدة المدح لعواطفه وصدق مشاعره، وإنما انصرف إلى إرضاء الممدوح، رغبة في الاستمناح والطمع في العطاء، وهو ما جعل كثيرا من معانيه وصيغه عبارة عن كلام جاهز، مكرور بين الشعراء، لا يترددون في صبغه بما يتوافق وأفق انتظار الممدوح داخل طبقته وعثره، ويليق وأخلاقيات مقتضى الحال. 

     وقد ارتبطت معظم قصائد هذا اللون الشعري بمناسبات رسمية، إما بتكليف من ممدوحي البلاط، أو لأن شعراءها قد اختصوا بشخص معين في غالب الأحيان. ناهيك على أن "المدح تقليد شعري، لا يمكن للشاعر أن يطير ذكره في الأفاق، إلا إذا كان من مداح الملوك والأمراء". 

ولم تكن قصائد هذا اللون الشعري وقفا على شاعر معين، فالطمع والخوف حركا كثيرا من الشعراء إلى القول ارتجالا أو على البديهة، كلما وجد الشاعر نفسه بحضرة خليفة ، أو وزير أو أمير، أو ذي جاه يطمع في عطائه أو يرهب جانبه.

      إلا أنه في غياب الظروف الخارجية، المحيطة بالقصيدة المدحية، فإنه يغدو من الصعب ـ أحيانا ـ تمييز هذا الضرب الشعري عن غيره من الأشعار، لا تخرج ـ هي الأخرى ـ عند الشاعر الواحد ـ عن بعض هذه المناسبات، ليس رغبة في العطاء، أو رهبة من الممدوح، ولكن إعجابا بهذا الأخير، ووفاء بحبه.

      وقد مثل الممدوح في هذه القصائد خلاص الشاعر من ضيق المكان والزمان، فجاءت معبرة عن تجربة صادقة، وشعور يحركه، أحيانا ما يوجد عليه الشاعر من يأس وجزع.

وتعتبر نماذج هذه الأشعار، قاعدة صالحة لمناقشة رأي إبراهيم أنيس الذي يقف عند القصائد التكسبية الخالية من كل عاطفة شعرية، وإن كنا نرى أنه كغيره من أصحاب الإتجاه الإيقاعي ـ قد صاغ عامة ، مفادها أن الشاعر في حالة اليأس والجزع يختار أوزانا طويلة يصب فيها من أشجانه ما ينفس عنه حزنه وألمه.

     ولا جدال في أن الشعر الأندلسي، قد خضع في بعضه لمجموعة من البواعث النفسية، تعددت بتعدد الشعراء، واختلاف تجاربهم الشخصية وظروفهم الاجتماعية ، فارتبط " بالغربة" عند شاعر كابن حمديس، و" بالشكوى " عند آخر كالتطيلي، و"بالاضطراب والتوزع والخوف والرجاء" ، كما عند ابن اللبانة،  وأن نماذج هذه البواعث لا تختلف من حيث المغزى العام عن التصور الذي صاغه الإتجاه الإيقاعي حين ربط بين الأوزان الطويلة وبين حالات من اليأس والجزع، سواء كانت هذه النماذج تعبر عن ذات الشاعر أو عن ذات الجماعة أو تجمع بينهما معا.

   ويمكن أن نمثل للأشعار التي تعبر عن ذات الشاعر بنموذج لابن حمديس ، في مدح علي بن يحيى  يقول من الطويل: 

          فقـــل لأناس عرسوا بسفاقـــس         لطــائر قلبــــي في مُعَرســكـــم وكـــر

          وفرخ صغير لانهوض لمثـــله          يـــراطـــن أشكــــالا ملاقطــــها صفر

         إذا ما راى في الجو ظل محلــق         ترنم واهـــــتـــزت قــــوادمــته العـشر

         يظن أباه واقعـــــا فـــــإذا أبـــى         وقــــوعا عــليـــه شب في قلــبه الجمر

         يلد بعيني أن ترى عيـــنــه وأن          يـــلــف بنـــحر في التـــلاقي له نحـــر

         أحـــن إلى أوطـــانكم وكــــأنما          ألاقي بها عصر الصـــبا، سقي العصر

         ولم أر أرضا مثل أرضكم التي          يقبل ذيـــــــل القصر في شطها البـحـــر

         يــمد كجيـــش زاحف فإذا رأى         عـــــطاء علــــي كان من مـــــــده جزر

    وقد افتتح قصيدته بمقدمة في وصف الطيف، تناسب الجو النفسي الذي حرك شاعريته، واختار لذلك وزنا طويلا يلائم ما يحسه من غربة وحنين إلى وطنه وأحبته بسرقوسة، بعد أن غادر وطنه فظل يتشوق إليه، ويعلل نفسه بمدح الملوك والوزراء وغيرهم، "يستشعرهم الإقلال وضيق الحال، إذا امتنع عنه الرسم، أو أبطأ عليه الرسم".

      ولا تختلف القصائد التي تمتزج بين الفردي والجماعي  في مغزاها العام عن الحالة الشعورية التي خضع لها معظم الشعراء أثناء مثولهما بين يدي الملوك والأمراء. ويمكن أن نستحضر شاهدا على ذلك، قول الأعمى التطيلي  من قصيدة يمدح فيها أبا يحيى:  (البسيط)

فسائل الروم هل مانت على ثقة        من غزو اروعيعطي الغزو ما يسال

قــاد الجـــياد إليها من مرابطها         مـــــاض إذا عرض الهيابة والوكل

       والقصيدة طويلة جدا وهي تجمع بين كل المعاني التي دونها الشعراء في مدائحهم إلى ذوي السلطان وقد ابتغى الشاعر من وراءها تحقيق غايتين: وتتجلى الغاية الأولى في الدفاع عن الأمة الإسلامية من خلال، الحفاظ على قيمها، ومثلها العليا، وصون ملكها وتوسيعه، أما الثانية  فتتجلى في سعي الشاعر إلى تحقيق أماله الخاصة، وطموحاته الفردية،  كما يتضح من هذه الأبيات التي اختتم بها قصيدته. يقول: 

                يأيــها المـــلك المــيــمون طائـره           يا بدر يا بحر ياضرغام يا رجــل

                أتاركي لصروف الدهر تلعب بي           وقــــد حدلني إليك الحب والأمـل

                شكـــرت نعـماك لما قل شاكرهـا           إن الكــريم علـــى العلات يعتمــل

                وهاكها يقتــضيك الحسن رونقـها           وإن لوتها به الأعــدار والعــــلــل

                تطــاول الدهر منها لـو يعارضـه           دهر علاك به الأسحار والأصول

                سيارة في أقاصي الأرض شاردة           مـــما تـروي لك العلـــيا وترتجل

      أما القصائد التي ظلت تنوه بالبطل، سواء كان ملكا، أو أميرا، أو قائد جيش، فلا أجدها تصلح للإطار الذي صاغه الإتجاه الإيقاعي، حين ربط بين الأوزان الطويلة وبين حالات من اليأس والجزع. فكيف والحالة هذه، أن تنطبق أشعاره تعبر عن جو حماسي بطولي، عن هذه القاعدة العامة؟

 يقول بن دراج في مدح المظفر يحيى بن المنصور  أبي الحكم:  [ من البسيط ]

                   إقبال جـــدك للإســـــــتلام إقبـــال      وعز نصرك للإشراك إذلال

                   ولا مـــعــــقـب للحكم الذي سبقت       به مــــن الله أحكــام وأفعـال

                   أحق حقك في الملك الذي ضمنت       ميراثه لك أمـــلاك واقــيــال

                   وحق للــفـــخـتر المـرفوع معلمه       حق وللباطل المجهول إبطال

                   فاسـعد بمـلك مفـــاتيح الفتوح ولا       خابــت بسعـيك للإسلام آمال

                   ولا كفــــتح غـــذت أعلام دعوته       ترسوبه وكئيب الشرك ينهال

        وقد صدر فيها الشاعر عن حماسة دينية متأججة تنوه بشجاعة الممدوح وقوته، وببسالة أسوده، وصموده في قتال العدو، وشل شوكته، دفاعا عن ثغور المسلمين. وتتكرر نماذج هذه القصيدة لدى جل شعراء الأندلس، من أمثال ابن حمديس، والأعمى التطيلي، وابن خفاجة، وابن الآبار، وابن الخطيب، وابن فركون.

      ومثل هذه القصائد "التوثيقية" التي تذهب مذاهب الجلالة في إظهار عظمة الممدوح وما كان له من انتصارات وفضل على الرعية، لا تستطيع إخفاء حماسة الشاعر، وإعجابه بممدوحه، وما يلاقيه من ترحاب تخرج إليه الرعية، أثناء قفوله من معركته التي أبلى فيها بلاء حسنا:  

                  فتح – كفاتحه في الخلق – ليس له       مما خلا من فتوح الأرض أشكال

                 أضــحـــت بــه حلل الدنيا لنا جددا       ولبس والــي العدى والغدر أسمال

                 وشب شيباننا من ذكــــره فــــرحا        وشاب من خزيه في الشرك أطفال

                 وغنــت الطير في أغصانها طربا         وشدو طير العدى والكفر إعـــوال

      وغالبا ما تأنق الشعراء في صياغة هذه القصائد غاية التأنق، بحيث نوعوا في أساليبها بين الجزالة والفخامة، والرقة والسهولة، طبقا لما تقترحه عليهم طبيعة المعاني وأقدار الممدوحين.

وتمثل هذه القصائد جانبا مهما من جوانب المديح الأندلسي  كان على "إبراهيم أنيس" أن ينتبه إليه قبل أن يصوغ نظريته العامة خصوصا وأن هذه القصائد قد اختارت لنفسها أوزانا طويلة تناسب هذا المذهب البطولي والقصصي الذي يفصح عنه كم لا يستهان به من القصائد الشعرية الطويلة النفس.

      وحضور هذه الألوان الشعرية بصورة مكثفة على وزن الطويل، والكامل، والبسيط، لم يقف دون مجيئها على بعض من الأوزان الطويلة الأخرى كان أن تأخرت قليلا في الشعر العربي وأغراضه، وخاصة في الشعر الجاهلي الذي ظل يمثل النموذج الراقي طوال الأزمنة الشعرية المتوالية.

    وهي أوزان تضمنتها أحكام كل من حازم القرطاجني، وعبد الله الطيب، وإبراهيم أنيس، ومحمد غنيمي هلال. وتمتاز هذه الأوزان في صورتها المجردة بأوصاف وخصوصيات موسيقية مختلفة فيما بينها وبين سابقتها من الأوزان الطويلة. وهي أوصاف تجعلها لا تتماشى مع وجهة النظر التي ترفض تخصيصها بهذا الغرض الشعري أو تسمح لها بحالة واحدة من الحالات النفسية. 

      ويعتبر "الوافر" أحد هذه المجالات الايقاعية، إلا أن نسبة وحداته لا تزيد عن (6.21%)، رغم ارتفاع نسبة تداوله إلى (62.96%)، بل تنزل في الأبيات إلى(4.15%) لاقتصارها على المقطعات بنسبة (9.22%)، مقابل (4.72 %) من القصائد، ناهيك عن قلة اختيارات الشعراء له، والتي لم تزيد في أقصاها عن اختيار ابن الآبار الذي وصل به إلى إحدى عشرة وحدة شعرية.

        ويأتي المتقارب في الرتبة الخامسة بعد أن كان في المديح الجاهلي يحتل الرتبة الثانية. ولم أجد أحدا من  الأندلسيين استعمله بكثرة في مدائحه، غير أن ابن دراج الذي ركبه سبع عشرة مرة . وهو عند غيره لا يزيد عن خمس وحدات فما دون ذلك.

       وعلاقة هذا الوزن بالمدح لا تزيد عن ( 5.73%) من الوحدات، و(5.36%) من الأبيات، و(6.05%) من المقطعات،  و(5.57% ) من القصائد، و(74.07%) من التداول، وسجل غيابه عند الغزال، وابن عبد ربه، والألبيري، وابن اللبانة، والرصافي البلنسي، وأبي الحسن الششتري، وحازم القرطاجني.

      واحتل الخفيف الرتبة؟؟؟ بنسب تنزل إلى (4.68% ) من الوحدات، و(3.27%) من الأبيات، وتصل في المقطعات إلى (7.20%)، مقابل (3.43%) من القصائد.

      وقد بلغ عدد الشعراء الذين اختاروا هذا الوزن لمدائحم تسعة عشر شاعرا، لم تتجاوز استعمالتهم الفردية له، أكثر من ثمان وحدات شعرية إذا نحن استثنينا ابن الخطيب الذي وصل به إلى هذا العدد.

       وينتمي إلى هذه المجموعة الثانية،  وزن "السريع" بنسب وحدات لا تتجاوز (4.20%)، موزعة ما بين تسعة عشر شاعرا، يتقدمهم ابن الخطيب من حيث الاتجاه بسبع وحدات.

وتبلغ نسبة أبياته (2.70%)، لارتفاع مقطعاته إلى (7.49%)، مقابل (2.57%) من القصائد. أما نسبة تداوله فتصل (62.96%).

      ونماذج هذه الأوزان لا تختلف في ألوانها المتعددة، عن وضعها بين الأوزان السابقة، من حيث البهاء، والقوة، والجزالة، وما يخالطها من رشاقة، وعذوبة، يقتضيها معرض الجد والجلالة، سواء كانت هذه النماذج تصدر في ألوانها المتعددة عن رغبة نفسية مبعثها الحزن والفرح، أو عن حب وتملق يدفع إليها الطمع في العطاء والاستمناح.

        بعد هذه الفئة التي قلت نسبتها في المدح، دون نسب تداولها كما تبين، يأتي الرمل على رأس مجموعة أخرى، تأخرت نسبها لدرجة تكاد تكون غير ذات دلالة في المديح الأندلسي.

     وتضم هذه المجموعة، أربعة عشر وزنا، يبلغ مجموع نسبها (7.38%) من الوحدات، و(6.56%) من الأبيات، و(8.31%) من المقطعات، و(6.95%) من القصائد. ويمثل فيها "الرمل" نسبة (2.19%) من الوحدات، و(2.57%) من القصائد، و( 1.44%) من المقطعات، و(2.47%) من الأبيات، و(37.03%) من التداول.

      ويمتاز هذا الوزن برقة وعذوبة ورشاقة منسابة تجعله  في رأي عبد الله الطيب – ينبو عن الصلابة  والجد وما إلى ذلك. وحكمه هذا يتفق مع الأغراض التي خصها بنه حازم القرطاجني وسليمان البستاني. 

      وقد التجأ عبد الله الطيب إلى الإستشهاد بأوزان وأغراض مختلفة، من أجل تمرير وجهة نظره المسبقة عن هذا الوزن، وذلك بعد أن اصطدم  بمجموعة من النصوص المدحية وعمل على رفضها وتخطيء شعرائها، من حيث عدم مناسبة هذا الوزن لفحوى معاني المدح وتنافرها مع رقته.  

      ومثل هذا الحكم يصعب الأخذ به، ما لم نقم بدراسة جميع الأشعار التي جاءت أوزانها المختلفة في غرض المدح، لا خارجه، ونبحث فيما إذا كانت تجمعهما بنية مشتركة، أو لا تجمعها، وفيما إذا كانت أوزانه تحتفظ بخصائصها الموسيقية المجردة، أم تستمد إيقاعها من مادة صياغة الشعر ذاتها. وهذا باب كبير، نأمل أن نقوم مستقبلا بتحمل جانب منه.

     وإذا استثنينا "مجزوء الكامل" الذي قارب الرمل قليلا من حيث نسبه من المقاييس الإحصائية، فإن بقية الأوزان المنضوية تحت هذه الفئة، لا توجد على علاقة بالمدح إلا بنسب ضعيفة جدا.

فهذا وزن "المنسرح" لا تزيد وحداته عن (0.86%) موزعة ما بين قلة من الشعراء فمنهم: ابن عبد ربه، والغزال، وابن هانئ، وأمية الداني، وابن سهل، وابن الخطيب. وعدم إكثار شعراء الأندلس من هذا الوزن وعزوف معظمهم عنه في مجال المدح، لا يرجع إلى اضطرابه وتقلقله،  وإنما لقلته عند شعراء الفخامة امثال كثير، والأخطل، والقطامي، وجرير، وابن الرقاع، والفرزدق، وممن سبقهم من طلاب الجزالة والفحولة.

    أما "مخلع البسيط" فلم ينظم منه سوى ابن عبد ربه، والمعتمد بن عباد مرة واحدة، ثم ابن دراج، والتطيلي مرتين.

       ويمتاز "المتدارك" بسرعة وخفة شبيهة بوقع الفرس على الأرض وضرب النواقس.  يقول أمية الداني من قصيدة في مدح الحسن بن علي الصنهاجي:

                       ندب ندس حلو شرس       شهم فـطــن لـيــن حسن

                       لــو لـــلأيـــام شمائله       لـم تحن عليك ولــم تحن

                       ولـــو أن البحر كنائله      لــم يدنو مداه على السفن

      وكونه كذلك هو الذي أثار استحسان شعراء المديح الأندلسي، وإقبالهم على تداوله، والنظم عليه. فقد اختاره ابن حمديس، وابن الخطيب مرتين، واستعمله أمية الداني، وابن الآبار مرة واحدة. 

وإذا أخدنا بعين الاعتبار هذه الحقيقة إلى جانب نسبة المدح بين الأغراض التي لاءمت هذا الوزن أفقيا،  أو حاولنا النظر إليه من خلال مدائحه التي منها قول ابن الخطيب:

         وافيــت إلــــيك بها راكضا           ولغــمر نــوالـــك مستــبـقا

         فســـبــكت التــــبر له لجما            وجعـــلت أعنتـــها ســرقا

         فأنل، واحمل، وأعد، وأبد،           وانعم، في ظل حمى، وبـقا

         مـــا لاح النــــور بـمشرقه            أو هـــزت ريح غصن نقا

    وجدنا أن عبد الله الطيب، لم يكن محقا حين ذهب إلى هذا الوزن بكل ما يصلح للحركة الراقصة الجنونية.  

       وربما لو كان تنبه - كسليمان البستاني -   لما يوحي به هذا الوزن المسمى ركض الخيل من معاني الفروسية والإقدام ـ تجعله أنسب لهذا الغرض لما كان قد أخرجه من دائرة المدح.

ولا تتعدى بقية الاختيارات الوزنية، ثلاث وحدات في "المديد" ، و" مجزوء الرجز"، ووحدة شعرية في "مجزوء الوافر"، و" المقتضب "، و"الرجز".

     وهذه الأوزان لا تخرج – في بعضها عن أشعار ابن دراج، وأمية الداني، وابن الآبار، وحازم القرطاجني، وعبد الكريم القيسي، وابن زيدون، وابن الخطيب، وابن سهل، وأبي حيان، وابن عبد ربه، والأعمى  التطيلي.

     ونشير إلى أن اختيار هؤلاء الشعراء لأحد الوزان السابقة، لم يكن اختيارا عشوائيا، وإنما دفعت إليه أسباب سنأتي على ذكرها، من خلال الوقوف عند نماذج بعض هذه الأوزان، وخاصة تلك التي أثارت أشكالا وانتباها متعددين داخل حقل الإبداع الشعري ونقده. وهذه الأوزان هي : المديد ، ومجزوء الرمل، والمقتضب.

       فقد أشار الإتجاه التقليدي إلى خاصية هذه الأوزان الثلاث، وربطها بأغراض معينة لا يتسع لها المدح. فنظرا لما يحمله "المديد" من رقة ولين وضعف أو قعقعة، أو ثقل يجعله ينبو على الذوق،  فإن الشاعر الأندلسي قد اقل منه بكثرة، ولم ينظم منه سوى ابن الآبار، وأمية الداني، وابن دراج.

أما حازم القرطاجني ففضل أن يبتعد به قليلا عن المدح، ربما نزولا عند نظريته النقدية التي تقارن بين الأوزان وبين المقام الشعري فاختاره "للتقريظ" في قصيدتين شعريتين، أحجم عن ذكر صاحبهما، يقول في إحداهما: 

                     بـــنــت فكــر لا نظير لها      صاغها من لا نظير له

                     أمـــــــــد الله خــــاطـــره       بــهــــداه حين أعــمله

                     فــحــــباها الله إذ كـــملت       ما حــــــابه حين كمله

                     وعلى الأقول فضـلها من       من على الأقوام فضله

 

     إلا أن حماسة حازم للربط بين الأوزان الطويلة وبين المدح لا تستقيم في ديوانه، فقد اختار قصيدتين مدحيتين على "مجزوء الرمل"، و"المقتضب" ليس جهلا بالقواعد التي وضعها بين يدي الشاعر أو قصد التنويع وإظهار البراعة الشعرية، وإنما لغاية لا يمكن أن تخرج عن الافتراضات التالية:

    ويتمحور الافتراض الأول في قلة حلاوة المقتضب وطيشه،  وفي طيب مجزوء الرمل. 

أما الافتراض الثاني فيتجلى في ما قد تحدثه مثل هذه الأوزان القصيرة من وقع طيب في النفوس التواقة إلى الإطراب والتخفيف من عبء الدولة ومسؤولياتها.

     وقد نظم حازم القرطاجني مدحته التني جاءت على "المقتضب"، لنفس هذه الغاية، فتغنى بخصال ممدوحه وما كان له من انتصارات أمن بها بلاده وحماها من الأعداء، يقول من أبياتها:

 

                   كــــم  علا ومكرمة       أحـــرزت به العرب

                   جـــــود كـــفه مطر       والخـــــلائق العشب

                   كـــــاد لا يكون لهم        في الحـــــيا به أرب

                   فالـــبحار فائــــضة        في يـــديــه والسحب

                   نخــــبة الملوك متى       يـــــبـــدو للعدا يغبوا

 

      ويتعلق الافتراض الأخير، بالحالة النفسية التي حركت الشاعر لاختيار هذين الوزنين. فإذا كان دافعه إلى انتقاء "المقتضب"، لا يخرج عن حبوره وإعجابه المتزايد بممدوحه.  فإن باعثه لركوب "مجزوء الرمل" في مدحته التي توجه بها إلى الأمير أبي زكريا، يلتقي مع تفسير إبراهيم أنيس حين يقول: "فإذا قيل الشعر وقت المصيبة والهلع تأثر بالانفعال النفسي، وتطلب بحرا يتلاءم وسرعة التنفس وازدياد النبضات القلبية".

؟؟؟؟؟؟؟؟

             أَيـــمَنُ الـــرَّكبُ فَيَامِنْ      تـــــــزجر الطير أيامن

             ولتســــل عنــهم نسيما      ضاع من تلك الضعائن

             واستـــــــمع نغمة شاد       للـــــحلى في جـــد شاد

             يا نـــوى الحباب كائن       هجت من خطب وكائن

             آه مــــن حـــلم مضاع       يــــوم ذاك الخلم ظاعن

 

     وانتقل بعده إلى مدح أبي زكريا بما تمدح به الأمراء، ومستصرخا إياه تدارك "سبتة" وإعداد العدة إلى أهلها لاسترجاعها إلى أهلها:

 

              فَــــادرِكْها بالجـــيَّادِ الـ         ـلاَّحِقِـــــيَاتِ الصوافن

              فمغـــــــــاني غربها قد         أوحشت منها المساكن

              ومغاني الشرق داجـــن         أفـــــــقها بالنقع داجن

              أصبحت وهي مواطــن         للــــعـدا تلك المواطن

              ياربــــوعا أقفــرت من         ناطق فـــيـــها وقاطن

              كـــــم حــديث عن قديم         منك شاج لي شـــاجن

              آه مــــن رشـــــد مفات         فـــيـــك عن إي مفاتن

              ولحـــــــــاء بالمواضي         جــــالـــب حينا لحائن

              عل يـــــحيى منك يحي          مــــا أماتته الضغائن

              بخمـــــــيس ضاقت الأ          فــــاق عنه والأماكن

      والنموذجان معا، يؤكدان ما سبق أن كشف عنه تحليل شواهد بعض الأوزان الطويلة أو المتوسطة الطول من حيث عدم اختصاصها بحالة معينة، وأن الأمر متروك فيها إلى الشاعر وما قد يعانيه من حالة نفسية ساعة النظم، قد تكون يأسا وجزعا، أو إعجابا بالممدوح، أو مجرد صناعة شعرية خالية من أية عاطفة صادقة، فتتطلب أنذاك بحورا قصيرة أو خفيفة.

      وتؤكد إحصائيات في الموضوع،  صحة هذه النتائج العامة واتخاذها كقوانين وقواعد ترسمها الشاعر العربي، وخاصة بالنسبة لأوزان الطويل، والكامل، والبسيط، ثم الوافر، والمتقارب، والخفيف.

فالاحتكام إلى نتائج المديح الجاهلي، في عدد أبياته، لا يطعن في صحة ما توصلت إليه دراستنا من نتائج تعطي الأولوية للأوزان الطويلة، غير ما كان للمتقارب من حب نفس الشاعر الجاهلي، دفعه لسبب ما، إلى تفضيله على الكامل، والبسيط، وتفضيل هذا الأخير على الكامل.

       وتشير نتائج إحصائيات ديوان أبي تمام، وأبي نواس، وابن الجياب الغرناطي، والحطيئة، والأخطل، والمتنبي، والبحتري، وبشار بن برد، ومسلم بن الوليد، وشوقي، وشعر النبويات في عصر بني مرين، إلى تناوب الرتب في ما بين  الطويل، والكامل، والبسيط وتنازل بعضها  للوافر، والخفيف عن الرتبة الثالثة. أما  المتقارب  فتأخر قليلا عن وضعه في الشعر الجاهلي، وخلا بصفة نهائية من مدائح أبي نواس، وابن الجياب، وبشار بن برد، ومسلم بن الوليد، وشوقي.

           وقد حافظت بقية الأوزان التي يختزلها الجدول على وضعها في جميع هذه الاحصائيات، مع بعض الاستثناءات شملت تأخر  بعضها أو تقدمها هنا أو هناك.

          وتنطبق هذه الملاحظة على وزن المنسرح الذي تأخر في الشعر الجاهلي، فجاء في الرتبة الحادية عشر بمعدل (1.10%) في حين عرف  الرمل، والرجز قفزة نوعية ، بلغ معدل أولها في مدائح ابن الجياب (12.82%)، ليحتل ثانيها الرتبة الرابعة في مديح بشار بن برد ومسلم بن الوليد، بمعدل (9.25%).

      ولا تسير أوزان هذه المجموعة على وتيرة واحدة من الشيوع، فوزن المديد – مثلا – لا يسجل حضوره إلا بقلة فقط في مدائح الشعر الجاهلي، وشعر أبي نواس، وابن الجياب. أما  السريع، و الرمل، فلم يغيبا سوى عن مدائح الأخطل، والحطيئة، والمتنبي، وشوقي.

     وقد أظهرت هذه الاحصائيات نفور شعرائها من الأوزان القصيرة والمجزوءة، بحيث لا نرى لها أثرا في مدائح أبي تمام، والحطيئة، والأخطل، والمتنبي، وشوقي. وهي عند غير هؤلاء، لا تتكرر بصفة مطردة تمكن من اتباع الشعراء لها . ووضعها هذا لايسمح بطرحها بعيدا عن دائرة الأوزان التي لاءمت غرض المدح، لأسباب تتعلق بجمالة القصيدة العربية في خروجها عما هو مألوف ومتداول.

      ولعل قلة شيوع هذه الأوزان في مدائح الشعر العربي بصفة عامة، هو الذي أوحى لحازم القرطاجني بتنكبها نهائيا في نظريته التي تربط بين المدح وبين الأوزان الطويلة التي لقيت أعلى مراتب الشيوع في الشعر العربي إلى حدود القرن الخامس الهجري.

      وهكذا لم يتم النظر إلى هذه الظواهر على أنها انزياخات شعرية، قد ترقى في وقت لاحق إلى النموذج أو القاعدة العامة. ويعتبر مجزوء الكامل الذي اجتل في الشعر الجاهلي نسبة (4.08%) خير مثال شعري، أمكن للشعراء على أساسه ان يعملوا على طرق الأوزان القصار، ومحاولة تكييفها مع غرض المدح. وقد سبق أن سجلنا في ارتياح كبير صلاحية المدح لوزن  المتدارك" بمعدل (70%.).

      هذا، وقد أبانت بعض هذه الدراسات عن اتساع المدح لأوزان أخرى يمكن إضافتها إلى ما انتهى إليه الجرد الاحصائي لآوزان المديح الأندلسي، وهذه الأوزان هي: المضارع، وكشف عنه شعراء النبويات في عصر بني مرين بمعدل (1.20%)، ثم الهزج، ونظم منه ابن الجياب، وأبو نواس، والبحتري بمعدل (1.32%). وأخيرا مجزوء البسيط الذي اختاره البحتري بمعدل (0.14%).

    وإذا كان هناك من اختلاف، فلا مناص من الإشارة إلى أن معظم هذه الاحصائيات قد اقتصرت على متن شاعر واحد، دون أن تتجاوزه إلى غيره من الشعراء، أو توقفه على عصر معين إلا في النادر من الأحيان. ومن جهة فإن من هذه الدراسات، ما كان يبحث في تطور على مستوى الأغراض، فلم تحاول البحث عن قاعدة عامة تمكن الدارس من عقد مقارنة سليمة، ولذلك بدت نتائجها مخالفة في بعض الأحيان لما انتهى إليه بحثنا.

     وعلى العموم فقد حافظت هذه الأوزان عبر تاريخ الشعر العربي على وضعها في عرض المدح، مع بعض الاختلافات البسيطة كان لعامل الزمن وربما لعوامل كثيرة، الأثر في توجيهها وجهة مختلفة، لم يستطع الشاعر الأندلسي هو الآخر الإفلات منها، خصوصا إذا حاولنا أن نتعامل مع أشعاره من زاوية تنظر إلى إبداعه الفردي.

 

 

3 ـ الوصف:

     تحيل لفظة "وصف" في لسان العرب على التحلية، والنعت، والابانة، والظهور.  أما على  المستوى الاصطلاحي فللكلمة معنى آخر استعمله النقاد استعمالا عاما وخاصا.

أ- الاستعمال العام: ويعنون به القول العري عامة،  فقلما كان النقاد القدامى يعدون الوصف من أغراض الشعر المستقلة بذاتها فهم كانوا يعتقدون" بأن الوصف عنصر أصيل لاغنى عنه في كل غرض من أغراض الشعر، أو كل موضوع من موضوعاته، فلا ضرورة في ضنهم في إفراده في غرض مستقل إذ المديح نوع وصف خصال الممدوح، والرثاء ضرب من وصف مناقب الفقيد، والغزل نمط من وصف محاسن المرأة". 

ب ـ  الاستعمال الخاص: هو الذي عناه قدامة بن جعفر بقوله: "الوصف إنما هو ذكر الشيء بما فيه من الأحوال والهيئات. ولما كان أكثر وصف الشعراء إنما يقع على الأشياء المركبة من دروب المعاني، كان أحسنهم من أتى في شعره بأكثر المعاني، التي الموصوف مركب منها، ثم بأظهرها فيه وأولاها حتى يحكيه بشعره ويمثله للحس بنعته".

    وقد أجمع جل النقاد على هذا التعريف،   مؤكدين على أن " المحاكاة التامة في الوصف"، لا يمكن أن تتحقق إلا عن " طريق استقصاء الأجزاء التي بمولاتها يكمل التخييل الشيء الموصوف"،  ويجعله في متناول حاسة البصر خاصة.

    أما التشبيه،  والاستعارة، والمجاز، والتمثيل، فليست إلا اصطلاحات تستند بعضها في تقديم صورة مستوفاة عن الشيء المراد تخييله.   

      إن هذا الحد الذي وضعه القدامى، ينم عن "واقعية مثالية "،  تستند إلى معايير نموذجية كان قد صورها الشعراء في كل موضوعات وصفهم العامة، فعبر الناقد العربي عن اهتمامه بها من خلال مجموعة من النماذج الشعرية لا تنحصر مرجعيتها في غرض الوصف، بل تتجاوزه إلى أغراض متعددة.  حيث لم يستطيع أن يتخلص من الاعتقاد السائد بأن " الشعر ـ إلا أقله ـ راجع إلى باب الوصف، فلا سبيل إلى حصره واستقصائه".

      وقد نبه حازم القرطاجني إلى هذا الخلط الذي وقع للناقد العربي، وهو يتحدث عن الوصف فقال: "جاعل الوصف قسما إنما يعني الأوصاف التي ليس للإنسان حاجة إلى حمد موصوفاتها ولا إلى ذمها ولا هي أيضا يصل إليها من ذلك شيء، وإنما القصد بوصفها سبر الخواطر ورياضتها. وقد يكون الباعث على ذلك اعتبار أو استغراب".

     وفي المعرض، نشير إلى أن موضوعات الوصف، كغرض مستقل بذاته، لا يمكن حصرها بصفة نهائية. فهي ـ في نظر ابن رشيق ـ تكثر بتعدد الموصوفات واختلاف العصور والأمصار.

    ولا نستغرب بعد ذلك، إذا كان الوصف غير مضاف إلى غرض من الأغراض الشعرية، قد أخذ قسطا كبيرا من اهتمامات الشاعر الأندلسي، فاحتل الرتبة الثالثة بمعدل وحدات بلغت (11.31%)، وإن بنسب تنزل إلى (3.76%) من الأبيات، و( 3%) من القصائد، فهو غالبا ما كان يأخذ صورة مقطوعات يضمن فيها الشاعر أحاسيسه وفكره نحو المنظر الذي ينفعل به، ولذلك تجد نسبته من المقطعات قد ارتفعت إلى  (15.50%)، لتصل إلى (88.88%) من التداول.

    أما الأوزان التي ناسبت هذا الغرض، وكشف الجرد الاحصائي عن صلاحيتها لغرض الوصف، فتستدعي الاجابة عن الساؤلات التالية:

   ما هو التأثير الذي يمكن أن يكون قد مارسه النقد العربي القديم، بعد اختياره لنماذج شعرية، تعددت مرجعياتها، دون أن تنحصر في غرض الوصف؟ وما هو موقف النقد المؤيد لإشكالية الوزن والغرض؟ وهل كان القصد من هذه الموصوفات سبر الخواطر ورياضتها، أم أن الباعث على ذلك اعتبار أو استغراب، كما يرى حازم القرطاجني؟ وهل كانت هذه الموصوفات، أو هذه المقطوعات تستدعي أوزانا قصارا تنطبق ومذهب المقعد الذي يشد القصار بالارتجال والقول على البديهة، وبشكل  يساير الرأي الذي يرى مناسبة هذه الأوزان للحالة النفسية الي يعيشها الشاعر أثناء مواجهته للشيء الموصوف وانفعاله به، وما قد يتطلبه الموقف في حالات مغايرة من أوزان طويلة تلائم العاطفة الشعرية، أم أن هذه الموصوفات ـ طويلة كانت أو قصيرة ـ لا تختلف في اختيار مجالاتها الايقاعية؟ ثم ما هي الأوزان التي يضيفها الشاعر الأندلسي إلى قائمة الانجازات الاحصائية في الموضوع؟ وماهي أسباب اختياره لها؟

     إن العودة إلى الكتابات المقعدة للشعرية العربية واستنطاقها لمعرفة الأوزان التي أتبث الجرد الاحصائي صلاحيتها لغرض الوصف، تفيد ممارسة فعلية للنموذج الشعري على أكثر من واجهة ايقاعية.

    ولن نهتم بما تفصح عنه النسب لأن هدفنا يتمحور حول معرفة الأوزان التي اعتمدت "كشاهد"، عمل الشعراء على احتذائه والقول على منواله. وبهذه المناسبة لا نرى مانعا من اقحام القارئ في متاهة هذه الشواهد نظرا لطرافتها وانفتاحها على أغراض شعرية متعددة، أهمها المدح، والغزل، وهما حقلان يوجدان على طرفي نقيض من حيث الجزالة، والرقة، وما يتطلبانه من أوزان تناسب مذهبيهما.

      وتتجه الغاية الأولى من وراء هذا الجدول، إلى ملإ الفراغ المعلن عنه في منهاج حازم القرطاجني، حين لم يعمل على تعيين الأوزان التي تصلح لهذا الغرض ومقاصده، وذلك من خلال اختيارنا لإحدى المرجعيات التي كان لها حضور قوي في الساحتين الابداعية والنقدية على السواء، إلى ما بعد  حازم وشعراء عصره.

      أما الغاية الثانية فتتجه نحو الأوزان التي أعرض عنها الفكر المؤيد، أو الرافض لقضية الوزن والغرض. وسنتخذ من المنهج الاحصائي، ومن النص الشعري شاهدا على الأوزان التي لاءمت غرض الوصف في الشعر الأندلسي، كغرض مستقل بذاته.

       إن انفتاح الأندلسيين على الأوزان التي أبان عنها الشاهد الشعري وكذا الشعر الجاهلي بما أضاف هذا الأخير من أوزان أهمها: الخفيف، والسريع،  ليس إلا دليلا على احتفائهم بجمالية الشعر العربي القديم في تراتبية أوزانه، وصلاحيته لغرض الوصف.

        إلا أننا لانعدم وجود بعض الاختلافات ـ سنأتي على ذكرها ـ والتي تتجه نحو أوزان خاصة وتدبر عن أخرى، في ما تقبل على أوزان قد ظلت خارج حدود الوصف في الابداعات التي وصلنا إحصاء أوزانها.

       وإذا كان حازم القرطاجني يفجر على مستوى إبداعه الشخصي، صمته ـ إلى حد ما ـ باتخاذه للطويل، والكامل نواتين إيقاعيتين لهذا الغرض،  فإن سليمان البستاني، وعبد الله الطيب، يتفقان حول صلاحية الوصف لأوزان: الكامل، والطويل، والبسيط، السريع، والخفيف، والرمل، والرجز، والمتدارك.

       واشتغال عبد الله الطيب على غير الإلياذة، جعله ينفرد بالإشارة إلى وزن المتقارب.  أما بالنسبة  للمنسرح، ومجزوء الرمل، ومخلع البسيط، والرمل، والمجتث، ومجزوء الرجز، ومجزوء الخفيف، فلم يخصها بهذا الغرض إلا من خلال مجموعة من الأبيات الشعرية،  التي كان يستشهد بها للتأكيد على ما تمتاز به هذا الأوزان من خصائص موسيقية تلائم تصوره الشخصي، وما تصلح لها من أغراض، تضل فيها محتفظة بهذه الخاصيات المسبقة. وقد كان هذا صنيعه حتى بالنسبة للسريع، والخفيف، والرمل.

      ولم أجده قد تطرق لـ " الوافر" ولـ " مجزوء الكامل" رغم الحضور القوي الذي امتاز به الأول في أوصاف الجاهليين وغيرهم من الشعراء، أمثال أبي تمام، والبحتري، وشوقي، أو غيرهم من الأندلسيين.

          كما أنه لم يتعرض بصفة نهائية في كتابه لمجزوء الوافر، ومشطور السريع، ومشطور الرجز. والحقيقة أن نسب هذه الأوزان من الوصف، ضعيفة جدا بحيث لا تزيد في أحسنها عن ( 0.53%). إلا أن السؤال الذي يظل مطروحا وهو لماذا لم يتطرق عبد الله الطيب إلى هذه الأوزان الثلاثة في مرشده؟

        وكان سليمان البستاني قد تعرض، فيما تناول من أوزان عن بحر"المنسرح" لعدم استقامته على إحدى موضوعات الالياذة.  أما "المجتث"، فلا يجود ـ في نظره ـ إلا في الأناشيد والتواشيح الخفيفة.  واستعمال الدارس لصيغة التفضيل هاته تجعلنا نقبل بضم هذا الأوزن إلى قائمة الأوزان التي ذكرها لغرض الوصف،  رغم أن نسبته لا تزيد في الشعر الأندلسي عن (1.77%) من الوحدات.

     إن انفتاح "الوصف" في الشعر الأندلسي على هذا العدد من الأوزان الشعرية كان يوازيه جمال الطبيعة من جهة، والحياة اللاهية التي عاشها الشعراء في اتصال ببعض الملوك والأمراء، ناهيك عن الظروف العامة التي أحاطت بالشاعر الأندلسي في ظل التقلبات السياسية التي عرفتها بلاد الأندلس.

وشغف الأندلسيين ببيئتهم الطبيعية، وبمظاهر حضارتهم في ظل هذه الظروف، كان ينطوي على ما اصطبغت به الأندلس من مرح وأوجه قلق واضطراب،  "جعلها تسعى إلى ما يشعرها بالأمن أو إلى ما يسكن على الأقل بعض هذا القلق.  وهو نتيجة لذلك، امتاز بالرقة والسهولة والبساطة والوضوح، فضلا عن جزالة الألفاظ خصوصا في مراحله الأولى وحتى القرن الخامس الهجري.

تدل الاختيارات  التي عرضت للمجالات التي التي اتصلت بها ملكة التصوير عند الأندلسيين، على مبلغ ما بذله هؤلاء من عناية بالصورة منذ وقت مبكر من تاريخ الشعر الأندلسي "حتى أصبح طلب الصورة فيه غاية كبرى، بل أصبح بعد زمن أكبر غاية ".  وفي ذلك يقول الأديب أبو الوليد إسماعيل بن عامر الحميري (تـ 440هـ ): "فلهم  في وصف الربيع أحسن المعاني مجتلى وأطيبها مجتنى"، و" لهم فيه من الاختراع الفائق، والإبداع الرائق وحسن التمثيل والتشبيه ما لا يقوم أولئك مقامهم فيه ". 

     إن غلبة هذا التوجه على شعر الوصف، هو الذي حذا بالشاعر الأندلسي إلى ركوب الأوزان الطويلة، وتفضيلها على سائر الأوزان الأخرى.  وقد استطاع كثير من الشعراء ولا سيما شعراء القصور، وغيرهم من أبناء النعمة والرفاهية، أن يتحفونا بإبداعات شعرية تعتبر غاية الصنعة، وإعمال الفكر، والتأنق في العمل، كقول الشاعر:  [ من البسيط ]

 

وما روضة بالحزن حاك لها الندى        بـــرود من الــــموشي حمر الشقائق

يقـــيــم الــدجـــــى أعناقها ويميلها        شعاع الضحى المستن في كل شارق

إذا ضـــاحكتها الشمس تبكي بأعين        مكــــلــــلة الأجفــــان صفر الحمالق

حكت أرضـها لون السماء، وزانها         نجوم كأمثــــال النجـــــــوم الخوافق

بأطيب نشرا مــن خلائقه التي  لها         خضعت في الحسن زهر الخــــلائق

        فأنت ترى أناقة اللفظ، وبهجة الصورة التي خلعها الشاعر على روضته، وقد كساها من الألوان والزينة البديعية، ما جعلها أنسب في هذا الوزن، لطوله واتساعه لمثل هذا الترف في الخيال، والتأنق في الفكر.

       ونماذج هذا الشاهد، لا حصر لها في الشعر الأندلسي، بحيث تراها تكتسح كل الفضاء الذي تعاملت معه الدراسة، وخاصة فيما تعلق منه بالأوزان الطويلة.  ولم تشد سوى عن نتائج ثلاثة من الشعراء هم: أبو إسحاق الإلبيري، وابن زيدون، وأبو الحسن الششتري، وليس ذلك إلا لعدم تعرضهم لهذا الغرض في استقلال بذاته.

       وتفصح نماذج هذا اللون الشعري، عن علم بأسرار اللعبة الشعرية، وما تتطلبه من حذق ومهارة فائقة، تجعلها لا تنبو عن الأوزان الطويلة، ولا تخالف مذهب إبراهيم أنيس الذي يعتبر الوصف من الأغراض التي لا تنفعل لها النفوس، وتضطرب لها القلوب، وأن الأجدر به أن يكون في قصائد طويلة وبحور كثيرة المقاطع.

       واعترافنا بهذا الجهد المبذول في ترقيش الصورة الشعرية، وشحنها بغرائب الأشكال وروائع الأصباغ، لا يجب أن يذهلنا عما تحمله نماذج كثيرة من انتقادات تضعف من بعض جوانب رأي إبراهيم أنيس، ومن سار على ركبه. 

        وتمتاز هذه النماذج بدفق وحيوية يؤكدها "اندماج الفنان في الطبيعة وفناؤه في شخصيتها، وتلاشيه في روحها الشامل، فإذا هو ...يصدر عنها في حركاته وخلجاته وأحاسيسه المختلفة ".  ذلك أن اهتمام الشاعر الأندلسي بالطبيعة لم يكن شكلا من أشكال الزينة ومعرضا للجمال فقط، بل كان أيضا مصدرا لمرحه وطربه، كما أنه كان مرتعا لتأملاته واعتباراته". 

      ومن شواهد النوع الأول قول ابن حمديس يصف النارنج:   [ كامل ]

 

باكر صبوحك من سلاف القهــــوة       وامزج بسمعك صرفها بالنغمــة

وانظر إلى النارنْج في الطبق الذي       أبدى تداني وَجْنَــةٍ مـــن وجْنــةِ

ومن العجائب أن تضرَّم بينـــنـــــا       جمـــراتُ نارِ تجتــنى من جنَّـة

 

ونظيره من المتقارب، قول ابن زقاق: 

أرق نسيــــم الصبــــا عــرفه      وراق قضيــب النقا عطفه

ومــــر بنـــا يتهــــادى وقـــد      نضـــا سيف أجفانه طرفه

ومــــر لمــــبســمه راحـــــة       فخلــــــت  القاح دنا قطفه

أشـــــار لتقبيلها فــي السـلام       فقــــال فمـــــي ليتني كفه

 

          ولامجال لإنكار هذه الرؤية الطربية التي تشد الشاعر بشدة إلى أن يباكر صبوحه، وينعم بهذا الجمال الذي حسبه ابن زقاق غادة حسناء هم بتقبيلها.

       وربما انقياد الإتجاه الإيقاعي وراء الفكر الأجنبي، وعدم وقوفه عند النص العربي، هو الذي جعله لا يلتفت إلى ما يزخر به هذا الأخير من حالات نفسية متباينة، تسير جنبا إلى جنب في الوزن الواحد، وبخاصة إذا كان من الأوزان التي تمتاز بنسبة مهمة من الشيوع.

     وعلى نماذج هذا اللون الشعري عن الرأي الذي يشد الطوال إلى حالات اليأس والجزع فقط، لا يرفض الإستجابة لرأيهم في الأوزان القصيرة ـ على قلتها ـ حين يربطون بينها وبين هذه الرؤية الطربية الغالبة في الأوزان الطويلة.

     ويمكن أن نستدعي شاهدا على ذلك، قول ابن الآبار يصف نهرا: 

لله نهــــر كالـــحــــــبــــاب       تــــرقيشه سـامي الحبــاب

يصــــــف السمــاء صفاؤه        فحصاه ليس بذي احتجاب

وكـــــأنـــــما هــــو رقــــة       من خالص الورق المـذاب

غــــازلـــــت في شطــيه أبـ      ــكار المنى عصر الشبـاب

والظـــــتل يـــبــدو فـــــوقه      كالخــال فـــي خــد الكعاب

     واختيار الشاعر لمجزوء الكامل، يناسب هذه الرؤية الطربية التي أعرب من خلالها عن إعجابه بهذا النهر، وبما كان له فيه من مغازلات أيام الشباب.

    وتطلعنا بعد هذا الإتجاه الذي تملأه نوع من الطربية بمباهج الطبيعة، نصوص قيلت لقصد الإستغراب والإعتبار. وهي أقرب ما تكون إلى التعبير المطلق عن حالات اليأس والجزع التي تناسبها البحور الكثيرة المقاطع. وربما لذلك رفض الشاعر أن يختار لها غير هذا الوزن، فقال ابن خفاجة:  [ طويل ]

 

ألا رب رأس لا تــزاور بيـنـه       وبــيــن أخــيه والمحل قريب

أناف به صلد الصفا وهو منبر       وقام على أعلاه وهو خطيب

يقول حذارا لا اغترارا فطالما       أنـــاخ قتـــيـل بي ومر سليب

وينشــــدنا إنـــا غريبان هاهنا       وكـــل غريب للغريب نسيب

فإن لم يزره صاحب او خليلية       فــقــد زاره نسر هناك وذيب

فها هو اما منظرا فهو ضاحك       إلــيــك وأمــا نصبـــه فكئيب

      ومن يتأمل هذه المقطوعة التي يصف فيها ابن خفاجة هذا الخرق المخوف، وهذين الرأسين، وقد وضعا على كدس صخر ببعض الطريق، يدرك إلى أي حد لاءم " الطويل " هذا المعنى الذي قصد إليه الشاعر.

     فقد وقف ينصت إلى أحدهما كأنما ينصت إلى خطيب اتخذ من مرتفع صلد منبرا له، وقام خاطبا في الناس يعظهم ويقدم لهم العبر التي استخلصها من كل النوائب التي مرت به. فطالما كان موطن قتيل، ومعبر سليب، ومرتع ذيب ونسر. وليست هذه الغربة التي عناها الشاعر بقوله:

وينشدنا: إنا غريبان هاهنا      وكل غريب للغريب نسيب

سوى غربته نفسه، وإحساسه الحاد بمشكلة التحول الزمني، وذهاب الأقران. ولعل ارتياح ابن خفاجة للطبيعة هو الذي جعله يلفت نظره إلى "كل ما يوحي بالسكون والرهبة والامتداد، ويوحي بالسؤية والمجهول "،  فيضطر من وصف الجبل والقمر والليل. 

     أما عبر ابن خاتمة، وابن الخطيب، فكانت تغذيها رؤية وثقافية دينية، تنذر باغتراب الأندلس الحبيب. ولجسامة المصاب وما يقابله من تعلق بالدين والوطن، أقبل الشاعران على أوزان: الطويل، والكامل، والبسيط، والمتقارب، والسريع، لما  تمتاز به من نفس طويل يناسب هذه الدفقة المكلومة بهاجس السقوط.  إلا أن طول هذه القصائد لايخضع لمقياس معين.

      وإن المتتبع لنصوص الوصف وموضوعاته التي تناسبه البحور الطوال، يدرك إلى أي حد ارتبط في جانب منه بقضية المقام، وبأهمية الشيء الموصوف تاريخيا في الشعر العربي.

أما الأشعار التي ارتبطت بالمقام، فهي التي قيلت في القصور وما يتصل بها من برك، وتماثيل وبساتين، وأطعمة فاخرة، كانت تستدعي إليها  الشعراء.    

  يقول ابن عبد ربه في وصف "منية كنتش"،  التي بناها الأمير محمد بن عبد الر حمان:  [طويل] 

ألــــما على قصر الخليفة فـــانـظـــرا          إلى مـنــية زهــــراء شــيــــدت لأزهـــــرا

مــــــزوقــتة تــستـــودع النجم سرها           فـــتـــحـــسبــه يـــصــــغــي إلــيها لـتخبرا

هي الزهراء الـــبــيــضاء فــي ألبست           لها الزهر الحمـراء في الجــو مـــغـــفـــرا

     يود ودادا كل عـــضــــــو ومــفــصـل          لـمـبـــــصـــــرها لـو انه كــــــان أبـــصرا

     بنـــــــاء إذا ما اللـــيــــل حـــل قناعه           بدا الصــبح من أعــــرافــه الشم مـــسفـــرا

     تعالى علوا فـــــات عن كل واصـــف           إذا اكــثروا في وصــــــفـه كـــان أكــــثــرا

     ترى المنية البـيـــــضاء في كل شارق          تـــــــلـــبـس وجــه الشمس ثــــوبا معصفرا

      إذا سدلت سترا على كــــل كـــوكـــب          كــبــا نــوره مــــن نــــورهـــا فــتــســتــرا

     فإن عذرت شمس الضحى في نجومها         على الجو كان كان القصر في الشمس أعذرا

     ودونك فانظر هل ترى من تــفــــاوت        بـــه أو رأت عــيـنـاك أحــســن مــنــظــــرا؟

 

      وتصف هذه القصيدة فنا معماريا معجزا، يحكي عن الفخامة والبذخ اللذين صاحبا إنشاء هذه القصور، والتنافس في تشييدها والولع بتزيينها.  وهي من حيث قيمتها الفنية، ترقى إلى المستوى الذي ينبغي أن يرتفع فن رسم، في اختيار صوره وأوزانه، وطول نفسه الشعري.

     ويوازي نصوص هذا النموذج، تلك الأشعار التي دوَّنها بشكل واسع كل من ابن الخطيب، ويوسف الثالث، وابن فركون، وعبد الكريم القيسي، لتؤرخ لهؤلاء السلاطين، من خلال النقش على الجدران، والطيقان والسيوف، والحمالات، والأسرة، وآنيات الفخار التي كان يشرب منها هؤلاء.

    ومن ذلك قول ابن الخطيب في مقطوعة لتنقش على طاق الماء بباب القبة.  [ الخفيف ]

               أنا طــــاق تزهو بي الأيام       تعــبـــــــت في تدائع الأفهام

               وتبديت للــــنواضر محرا        با، كأن الإنــــاء فــي إمـــام

               واقف للصلاة حـتى إذا ما        جئت للشرب حان منه سلام

      وتتبنى هذه الكتابات في غالب الأحيان وظيفة متنوعة:

1 ـ  فهي من جهة تقدم صورة ذاتية للسلطان.

2 ـ ومن جهة ثانية  تسجل دلائل الدين ونصوصه

3 ـ ما من الناحية الفنية، فتوحي بعمارة خيالية موازية للعمارة المبنية الحقيقية. 

   وبتعبير أدق فإن هذه الكتابات تؤرخ للقصور بكل محتوياتها، وتخصصها للأسرة الحاكمة وملوكها، وللسبب نفسه اختارت من الأوزان التقليدية ما يكمل هذا المشروع الفني والرمزي للسلطة.

وتتعلق نماذج النوع الثاني، بكل ما يتصل في الشعر العربي بمعاني الشجاعة والفروسية، والإقدام في ميدان الحرب، من خيول، وسيوف، ودروع، وأقواس، ورماح، وأساطيل.

       إلا أن من شواهد هذه الموصوفات ما ارتبط أحيانا، في شعر ابن هاني بالمقام الشعري، متخلية عن التزامها بالأوزان الطويلة في قطعة واحدة تصف سيف "يحيى بن علي"،  يقول فيها ابن هانيء:  [ مخلع البسيط ]

                       أكـــوكب في يمين يحيى      أم صـــارم باتك الغرار

                       حـــــامــــلــه للمعز عبد      والسيف عبد لذي الفقار

 

     وكان علينا أن ننتظر طويلا عصر الكتابة التأريخية التي اتخذت من النقش وسيلة متطورة لتدشين نمط شعري جديد، يناظر الفضاء الزخرفي الذي عم قصور الأندلس، حتى نشاهد كيف أدت الأوزان القصيرة تلك الوظيفة التي لعبتها البحور بهما معا، ثم نرى أيضا كيف قامت في جانب منها باختصار تلك القصائد السلطانية، واختزال محتوياتها، حتى تنتج خطابا شعريا دقيقا في معانيه وصوره، بعيدا عن ثقل وإفراط تلك القصائد الرسمية،  كقول يوسف الثالث، لترسم في مبنى:  [ مجزوء الرمل ]

 

                      فـــتــــأمــل مصـــنــعــتي        تـــلـــفــــه روضا مجود

                     والظــــــــــلال حـــــولـــه        كـــــخــــوافــــــق البنود

                     وأمــــامــــي وقــــفـــــت         ربـــــة الــثـــغـر البرود

                     خــــصـــــة مـــعــجـــبـة         أخــــذت أوج الصــعـود

                     كــــلـمــا تــبـــصــرنـــي         تــتـــرامـــى لــــســجود

                     خــــجــلــــت فــي مشيها         حـــيـن ريـــعت بالأسود

                     لاتــــــراع إنــــــــــــهــا         في حمى مولـــى الوجود

 

     ويأتي مجزوء الرمل على رأس الأوزان القصيرة التي ناسبت هذا النمط الشعري، يليه مجزوء الكامل، ثم المجتث، ومجزوء الرجز، ويعدهما مخلع البسيط، ومجزوء الخفيف، ثم مجزوء والوافر، والمتدارك.

       أما على المستوى الإحصائي تسمح النتائج بإمكانيات تقسيم الأوزان التي ناسبت غرض الوصف إلى مجموعها ثلاثة:

ـ المجموعة الأولى: وهي الأكثر تناسبا وتضم الكامل، والطويل، ثم البسيط، بمجموع نسب تصل (54.43%) من الوحدات، (58.22%) من الأبيات، (53.50%) من المقطعات، و(64%) من القصائد. أما نسبتها من التداول فتتراوح ما بين (48.14%)، و(77.77%).

وتشير نسبها الفردية، إلى مزاحمة الكامل لوزن الطويل بفارق لا يتعدى (0.53%) من الوحدات، و(0.99%) من المقطعات، في حين توجد حصصه من المقاييس الإحصائية الأخرى، دون حصص الطويل. ومن جهة ثانية، فإن هذا الأخير، قد فاق في بعض استعمالاته الفردية، اختيارات الكامل، حيث استعمله ابن الخطيب، وابن حمديس، وابن خفاجة بزيادة تقدر في إنتاجهم بعشر وحدات.

     وعلى تقدم رتبة البسيط، فإنه لم يتجاوز نسبة (10.14%) من الوحدات، و( 8.54%) من الأبيات، و( 9.96%) من المقطعات، و (12%)من القصائد، و(48.14%)من التداول، حيث لم أجد أحد من الأندلسيين قد أكثر منه غير ابن الخطيب، وابن حمديس. وقد استعمله الأول خمس عشرة مرة، أما الثاني فركبه إحدى عشرة مرة. في حين اقتصرت بقية استعمالاته فيما دون خمس وحدات شعرية.

       وتضم المجموعة الثانية: السريع، والمتقارب، والخفيف، والوافر، بنسب أكثر تقاربا فيما بينها إلى حد ما. وهي في السريع، والمتقارب أقرب إلى نسب البسيط منها إلى نسب الخفيف، والوافر، فهما دون معدلاتهما وتناسبهما للوصف، ومما يؤكد ذلك هذا الفارق الكبير بين استعمالاتها، والذي يقدر من حيث الوحدات بـ (3.46%).

      ونشير إلى أن مجموع استعمالات هذه الأوزان، لا يتعدى تسعا وأربعين وحدة شعرية في وزن "السريع"، ولا ينزل عن ثلاث وعشرين مقطوعة شعرية في وزن الوافر.

     أما استعمالات الشعراء لهذه الأوزان، فلا تتجاوز خمس عشرة وحدة شعرية في وزن المتقارب، وإثنتي عشرة وحدة شعرية في الوافر. واختيار الوزن الأول والرابع من نظم ابن خفاجة، أما الثاني والثالث فمن نظم ابن الخطيب.

       وتوجد هذه الأوزان، دون هذه الاختيارات عند معظم الشعراء، بل إن غالبيتهم لم يتجاوزوا بها الوحدة الشعرية إلا في النادر من الأحيان. ونتيجة لذلك وجدنا نسبها من الوصف أقل من الأوزان الثلاثة الأولى، ناهيك عن قلة تداولها بين شعراء المتن المدروس.

     ويأتي "المنسرح" على رأس أوزان المجموعة الأخيرة، بنسب غير ذات أهمية في غرض الوصف. وهي في الآن نفسه، لا تسمح لنا برفضها، خصوصا إذا كانت هذه الأوزان على المستوى الأفقي تسمح في معظمها للوصف باحتلال مراكز الصدارة، رغم أنها لا تعرف نسبة كبيرة من الشيوع في الشعر الأندلسي، تؤهلها هنا لاحتضان الوصف بنسب ترقى إلى مقام القاعدة العامة.

      ونحن إذا استثنينا نسبة تداول المنسرح، ثم مخلع البسيط، ومجزوء الكامل، والتي تقدر في الأول بـ (44.44%)،وفي الثاني والثالث ب/ ( 33.33%)، فسنجد أن نسب تداول أوزان هذه المجموعة على كثرتها، لا يتعدى هذه النسب، بل ينزل إلى (3.70%) في مشطور الرجز، ومجزوء الخفيف، والمتدارك، ومشطور السريع.

      وهي من حيث استعمالاتها الفردية، واختيارات الشعراء لها، لا تتعدى في مجزوء الرمل، مع عبد الكريم القيسي، عشر مقطوعات شعرية، بل توجد في غيره من الأوزان دون خمس وحدات.

لكل ذلك، وجدنا نسب هذه الأوزان من الوصف، تتخلى عن موقعها من الإنتاجية العامة، وهي تسر في اتجاه تنازلي باهت، يؤكد على أهمية الإنتاجية الفردية في بناء رؤية شعرية، تستجيب لتوابث الشعر العربي في أوزانه وأغراضه، وللعوامل التي أنتجت هذا الشعر، وعملت من حين لآخر على خلخلة بعض توابثه.

     ولنا في إحصائيات الشعر الجاهلي خاصة،  ما يؤكد ـ إلى حد ما ـ هذه النتائج ويؤازرها.

فاعتماد نسب الأبيات كمقياس للمقارنة، يؤكد أن الشاعر الأندلسي غالبا ما كان يترسم خطى أسلافه من الجاهليين "ولم يشد بوجه عام عن القواعد والأساليب التي اتبعها المشارقة في أشعارهم"،  حيث حافظ على نسب الأوزان الطوال، ولم يخالفه إلا نادرا. وفي ذلك يقول إمليو غرسيه غومس:

" ونظرا لما تمتاز به قوالب الشعر العربي من أبيات طوال، وإيقاع تتخلله الوقفات، وجد الشاعر العربي نفسه مضطرا إلى تأمل ما حوله  وتصويره في فتور وبطء وتراخ ". 

     وقد وجدناه خالف الشعر الجاهلي في ترتيب الوزن الثاني والثالث حين قدم الكامل على البسيط، ونقل السريع إلى الرتبة الرابعة، بعد أن كان يحتل الرتبة السابعة في الشعر الجاهلي، وأخر المتقارب، والخفيف، والوافر برتبة واحدة، والرمل، ومشطور الرجز برتبتين، ونقل مخلع البسيط من الرتبة السادسة إلى الرتبة التاسعة، وأقعد مجزوء الكامل في الرتبة العاشرة، بعد أن كان في الشعر الجاهلي يحتل الرتبة الثالثة عشرة.

     واستبعد من دائرته المديد، ومجزوء البسيط ، والهزج، فربما كانت تفرضها على الشاعر الجاهلي، بداوة الأول والثاني، وسذاجة الثالث.

    أما منهوك الرجز، فلم يثبت لنا وروده إلا من خلال قطعة رجزية لرؤبة أوردها ابن رشيق في عمدته. 

     وقد حاول شوقي النظم على المقتضب، فأتحفنا بقصيدة طويلة من تسعة وسبعين بيتا معدلها (7.10%)، لتعدد بذلك الأوزان التي ناسبت غرض الوصف في الشعر العربي، على اختلاف في النتائج.

     وفي مقابل ذلك، وجدنا الشاعر الأندلسي ينفرد في قصائده ومقطوعاته الوصفية بمجزوء الرمل، والمجتث، والرجز، ومجزوء الرجز، ومجزوء الخفيف، والمتدارك، ومشطور السريع، ربما لقصرها وملاءمة إيقاعها لغرض الوصف، أو لسهولة النظم عليها، أو ربما قصد التنويع، بعد أن رأينا عدم إكثاره منها وخلوها من أشعار غالبية الشعراء، ناهيك عن اختفائها بصفة نهائية من الابداعات الشعرية التي وصلنا إحصاء أوزانها، فجاءت نسبها ضعيفة، ومن قبيل الإنزياحات الفردية التي تسعى دائما إلى خلخلة ما هو تابث.

 

 

 

 

 

4 ـ  الهجاء

للهجاء في أصل اللغة معان، منها: الشتم والذم بالشعر والوقيعة في الأشعار.  وهو في الاصطلاح الأدبي، نقيض المدح، حيث يقوم على سلب الفضائل الإنسانية، وما تركب من بعضها مع البعض، بحسب المراتب، والدرجات والأقسام،  وبالجملة "ما يعلم أو يقدر أن المهجو يجزع من ذكره ويتألم من سمعه مما له به علقة".

وضروبه ثلاثة: تعريض، وتصريح، وتحقير.  ويكاد الاجماع ينعقد على اعتماد "التعريض" بديلا للهجاء، وإباحة القول فيه.

وذكر عبد العزيز الجرجاني، أن أبلغ الهجو "ما جرى مجرى الهزل والتهافت، وما اعترض بين التصريح والتعريض...فأما القذف والإفحاش فسباب محض، وليس للشاعر فيه إلا إقامة الوزن".

وقد خص ابن رشيق "التعريض" بمن هو على قدر في حسبه ونسبه، واعتبره أهجى من التصريح، لاتساع الظن فيه.  وهذا النوع في نظر ابن بسام "لا أدب فيه على قائله ولا وصمة أعظم على من قيل فيه".  وكان ابن شهيد قد اعتبره من محاسن القول.

أما إذا كان المهجو ممن لا يوقظه التلويح والتعريض، فإن ابن رشيق لا يمانع من اعتماد النوع الذي يسمونه "بالتصريح" . وهذا النوع رفضه ابن بسام في رد له، وجهه إلى ابن شهيد حين عرض بأبي جعفر الكاتب قائلا:  [متقارب]

أبو جعفرٍ رَجُـلٌ كاتبٌ    مليحُ شَبَا الخَطِّ حُلْوُ الخَطَابهْ

تَمْلا شَحْماً ولــحماً ومـا  يليـق تملِؤُه بالـكتابهْ

وذو عرَقٍ ليس ماءُ الحياءِ          ولكِنَّه رشْحُ فــضْلِ الجنابِه

جرى الماءُ في سُفْلِهِ جَرْيَ لَيْنٍ    فَأَحْدثَ في العُلْوِ منهُ صَلابَهْ

حيث قال: "وليث شعري ما التصريح عند أبي عامر إذا سمي هذا تعريضا؟ ولولا أن الحديث شجون...لما استجزت أن أشين كتابي بهذا الكلام البارد معرضه، البعيد من السداد غرضه".

            ووقف نفس الموقف من "السباب" الذي أحدثه جرير وطبقته،  لاعتبارات دينية-أخلاقية، يفسرها رأي ابن حزم(ت: 456هـ) في الهجاء جملة وتفصيلا. فهو يعد هذا الضرب من أفسد الأغراض التي ينبغي للشاعر تجنبها لأنه: "يهون على المرء الكون في حالة أهل السَّفَهِ من كناسي الحشوش، والمعاناة لصنعة الزمير المتكسبين بالسفاهة والنذالة والخساسة وتمزيق الأعراض وذكر العورات وانتهاك حرم الآباء والأمهات وفي هذا حلول الدمار في الدنيا والآخرة". 

            وتعود هذه المواقف إلى زمن الرسول(ص) وصحابته الكرام، وبخاصة من "الهجاء المقذع" الذي كان يقوم في المجتمع الجاهلي على أساس من المفاضلة، تدفع بعشائره إلى التطاحن والاقتتال. فقد روي عن النبي(ص) أنه قال: "من قال في الإسلام هجاء مقذعا فلسانه هدر".  والهجاء المقذع على حد تعبير عمر بن الخطاب رضي الله عنه هو: "أن تقول هؤلاء أفضل من هؤلاء وأشرف، وتبني شعراً على مدح لقوم وذم لمن يعاديهم".

            وطبيعي أن يدعو الإسلام إلى رفض الهجاء المقذع لاستكمال الصرح الحضاري التي تضمنه الرسالة النبوية، من خلال الحفاظ على تماسك المسلمين، وحماية وحدتهم من كل انشقاق تجر إليه مكاوي اللسان. إلا أن ذك لم يحل دون استمرارية هذا التقليد وإعادة حيويته والتشجيع عليه زمن بني أمية الذين أقاموا حكمهم على العصبية والقبلية.

            وعلى العموم، فإن ارتباط هذا الغرض منذ نشأته الأولى بصراع الأفراد في حياتهم الاجتماعية والقبلية،  نتيجة تفاوتهم في الحظوظ من الرزق والجمال والجاه والسلطان، لم يعد في معظمه من العصور المتوالية، مجرد هزل يقتصر على تصوير وجوه القبح في مظهره الفردي، بل انصرف أيضا إلى طرق وظيفة جديدة وجادة، بدافع من الغيرة على الدولة الإسلامية، وعلى تقاليدها وأحكامها، وذلك من خلال ملامح الشر والاختلال الجمعي، محاولة نشر الفضيلة الدينية والسياسية والاجتماعية، بعد أن كان ينظر إلى الهجاء على أنه انحراف عن جادة الفطرة السوية، ومركب ذلول لنشر الفساد والعبث في الدنيا والآخرة.

            وكأني بالشاعر العربي قد تنبه إلى تلك اللمحات النقدية التي كانت تؤسس للهجاء الجاد، بعد أن أجاز نقَدة الشعر بالاجماع شعر الهجاء، بمعنى التفكه والتلمح فقط، حرصا منهم على تفشي العداوة والبغضاء التي يؤدي إليها الهجاء الفاحش المقذع.

            وتمتد هذه اللمحات النقدية ـ فيما نعلم ـ إلى عهد الجاحظ، حين قال: "ولم تدر أن المزاح جد إذا اجتلب ليكون علة للجد".  وقد تحمس عبد القاهر الجرجاني لهذه الفكرة، بعد أن وعى قيمة هذه الأعمال الجدية التي تقدم نفسها كأنها نوع من العبث، فقال في رد وجهه إلى من زهد في رواية الشعر، وذم الاشتغال بعلمه وتتبعه:" رب هزل صار أداة في جد، وكلام جرى في باطل ثم استعين به على حق، كما أنه رب شيء خسيس، توصل به إلى شريف، بأن ضرب مثلا فيه، وجعل مثالا له".

            وربما نتيجة هذا التضييق الذي مارسه النقد العربي على شعر الهجاء، لم يكن هذا الأخير، بجميع أنواعه، غرضا ذا شأن يذكر في الشعر الأندلسي. ولعل أكثر العوامل التي حالت دون ازدهار الهجاء الأندلسي، غير هذا التضييق الذي كان يستمد مقاييسه النقدية من العامل الديني، خلو الأندلس من تلك الأحزاب المتصارعة التي وجدت في المشرق أرضا خصبة، وبخاصة زمن بني أمية.  وتزداد الصورة وضوحا إذا أضفنا إلى هذا العامل، ما كان للبيئة الأندلسية من أثر في خلق طبع رقيق، وذوق رفيع،  دفع مجموعة من الشعراء إلى الإعراض عن أبواب الهجاء، حيث أضرب عن هذا الغرض كل من ابن دراج، والأعمى التطيلي، والرصافي البلنسي، وأبي الحسن الششتري، وحازم القرطاجني، ويوسف الثالث، وابن فركون.

            فكل ما قيل من هذا الغرض، كان وثيق الصلة بظروف الغضب، وسرعة الخاطر، لا يتجاوز نسبة(47٪) من الوحدات، و(1.54٪) من الأبيات، رغم ارتفاع نسبة تداوله إلى (74.07٪) واحتلاله للرتبة الرابعة على مستوى الشيوع.

            وعلى العموم، فإن الشعراء الذين طرقوا هذا الغرض، لم يبلغوا فيه شأن المشارقة زمن بني العباس.  كل ما هنالك أنه حافظ على شكل المقطوعات الشعرية، (6.05٪ مقابل 1.32٪ من القصائد)، سيرا على النهج المتبع عند كافة الشعراء. وفي ذلك يقول ابن رشيق:

            "وجميع الشعراء يرون قصر الهجاء أجود...إلا جريرا، فإنه قال لبنيه: إذا مدحتم فلا تطيلوا الممادحة، وإذا هجرتم فخالفوا".

            ويمكن أن نجد تفسيرا لهذا الإجماع في ما تحفل به المقطوعة الهجائية من علوق وحفظ وسيرورة بين الناس، يلخصها قول ابن الزبعري: "يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق".

ويبدو أنه من الصعب أحيانا، التمييز بين أنواع الهجاء، خصوصا إذا كانت نماذجه وحدوده تظل نسبية متفاوتة بين النقاد.  ولذلك تجدنا نميل إلى التقسيم الثنائي الذي أفرزه التطور الحضاري، لماله من أهمية كبرى في تسليط الضوء على إشكالية الوزن الغرض، بحيث سيسمح لنا بتناول هذا الإشكال من زاويتين: زاوية تنظر إلى أوزان الهجاء الساخر في ذاته، وثانية تنظر إلى أوزان الهجاء الهادف.

ورغم إيماننا بطغيان عنصر السخرية فيهما جميعا، فقد آثرنا هذا التقسيم انطلاقا من الصفة الغالبة والموجهة لهذين النوعين. أما تعريضهما أو تحقيرهما، أو تصغيرهما، أو تصريحهما وما تضمناه من  فحش، وإقذاع، وتهزل، وتهافت، وقذف، فلن نعتني بأمرها إلا بالقدر الذي يخدم هدفنا في هذه الدراسة، سواء أثناء مناقشتنا للاتجاه المؤيد لقضية الوزن والغرض، أو أثناء تعرضنا للفريق القائل بترابط الوزن والعاطفة، أو بتناسب الوزن ودرجة العاطفة.

            وموضوع النوع الأول، شخصي ذاتي، تدفع إليه مصحلة خاصة؛ حيث يعتمده الشاعر، أحيانا، في إرهاب من كانت له بيده حاجة، فمطله بها.  وقد يتخذه مطية للتعبير عن عداءاته وغضبه من الخصوم، وحقده عليهم.  وهذا النوع قد يقف عند الحشمة، فلا يتعرض لأعراض الخصوم بالنبش، وقد يعدوها، في الغالب، إلى التقاذف بالشتائم، والقبيح من القول، أو يتجاوزها إلى السخرية والتنذر؛ حيث يتماجن الشاعر، ويعبث في نسبة العيوب إلى خصمه، في خفة ولهو، وسلاطة لسان. وهو في جميع الأحوال لا يتجاوز السخرية اللاذعة، أو الخفيفة، ولا يقف عند الإقذاع.

            ويستدعي هذا الغرض الألفاظ الساقطة، والعبارات الرشيقة، والمعاني القريبة، البعيدة عن التكلف.  فطريقة الهزل: "مذهب في الكلام تصدر الأقاويل فيه عن مجون وسخف بنزاع الهمة والهوى إلى ذلك".  وقديما قال الجاحظ: "ولكل ضرب من الحديث ضرب من اللفظ...فالسخيف للسخيف". . ولا بأس للشاعر أن يأخذ فيه بطرف من المتانة: "ليس فيه تعرض لما يقدح في الطريقة الهزلية".

والأهم من ذلك، أن "حازما" قد خصه بالأوزان الطائشة القليلة البهاء.  لكنك إذا انصرفت إلى استقراء ما جاء من هذا النوع على الأوزان الباهية، فستجد أن حازما قد خالفه الصواب من هذه الناحية. فأكثر ما قيل من هذا النوع، جاء على وزن الطويل، والكامل، والبسيط.  ومن الأدلة على ذلك قول يحيى بن الحكم الغزال:  [طويل]

قَصَدتُ بِمَدحي جاهِداً نَحوَ خـــالِدٍ           أؤَمَّلُ مِن جَدواهُ فوقَ مُنائي

فلَم يُعطِني مِن مالِهِ غَـــــيرَ دِرْهَمٍ           تَكَلَّفَهُ بَعدَ اِنقِطاعِ رَجـــــائي

كَما اِقتَلَعَ الحَجّامُ ضِرساً صَحيحَةً           إِذا اِستُخْرِجَت مِن شِدَّةٍ بِبُكاءِ

وقد صرح فيها الشاعر بخصمه، وجعله في مرتبة المهجو الذي لا يوقظه إلا التصريح، ثم نسبه إلى البخل، وسلبه فضيلة من الفضائل التي يمدح بها الإنسان.

واسخر منها وألذع، قول ابن خفاجة، معرضا بشعر ابن زيدون:  [كامل]

ومُعَرِّضٍ لِي بالهِجاءِ وَهُجْرِهِ      جَاوَبْتُهُ عَنْ شِعْرِهِ فِي ظَهْرِهِ

فَلَئِنْ نَكُنْ بِالأَمْسِ قَدْ لُطْنَا بِه       فَاليَوْمَ أشْعارِي تَلُوطُ بــــــهِ

وتمثل هذه المقطوعة مبلغ الفحش الذي تقبلته الأوزان الطويلة بصدر رحب، دون أن تبدو نابية فيها. ونموذجا من البسيط، قول ابن شهيد في هجاء كاتب:

وَيْح الكِتَابَةَ من شيخ هبِنَّقَةٍ         يلْقَى العُيُـــون بــرأَسٍ مخه رار

ومُنْتِنِ الرِّيحِ إِنْ نَاجَيتَهُ أَبداً        كأَنَّما مات في خَيْشُومِهِ فـارُ

وقد سلك ابن شهيد في هذه المقطوعة، مسلك غيره من الشعراء الذين أولعوا في هذه الأوزان بالقصار كأداة للهجاء والسخرية والتنذر بخصومهم، فأرسلوها مثالا تَنِزُّ لها القلوب، ويرشح لها الجبين. 

            والظاهر أن أن حازما لم يكن يشجع على هذا اللون الشعري وأنواعه، لدرجة أنه تغاضى عنه بصفة نهائية في ديوانه، واكتفى على مستوى التنظير، بأن خصه بالأوزان الطائشة القليلة البهاء.

            والجذير بالذكر، أن مشروع حازم، لا يفيد أجوبة صريحة وأكيدة فيما يتعلق بالأوزان التي عناها بهذه الصفات. فأعلاها درجة عنده: الطويل والبسيط، ويتلوهما الوافر والكامل عند بعض الناس، ثم الخفيف. أما المديد والرمل ففيهما لين وضعف، تجعلهما أنسب للرثاء وما بمجراه.

            ويظل "المنسرح، والسريع، والمتقارب، والهزج" في حاجة أن تكمل لصفاتها شروط التأويل والمواجهة، إن لم نستطع أن نقدر أنها الأوزان المقصودة بهذه الصفات، وأن حازما كان يسعى إلى الترويج لها من خلال الدفع بالشعراء إلى ركوبها في ما يعرضون له من هزل.

            ولنا في هذه الإحصائيات التي نقدمها لشعر الهجاء الأندلسي،  ما يكمل هذا المشروع النقدي الذي اومأ إليه حازم، أو تغاضى عن بعض أوزانه ثم احتلف فيه ما بين الأوساط الحديثة.

            أما "المجتث والمقتضب"، فهما أوضح هذه الأوزان، وأقربها إلى شعر الهجاء، كما يستفاد من قول حازم: "فالحلاوة فيهما قليلة على طيش فيهما".

 وقد تخلى الهجاء الأندلسي بصفة نهائية عن "المقتضب"، بينما اختار "المجتث" لاحتضان الرتبة السابعة، بمعدل (3.15٪) من الوحدات، و(2٪) من الأبيات، و(3.50٪) من المقطعات، و(18.51٪) من التداول؛ حيث استعمله بمجموع سبع وحدات، كل من الغزال، وابن خفاجة، وابن الأبار، وابن عبدون، وابن الخطيب.

وهجائيات هذا الوزن، تضعف من نظرية حازم القرطاجني، فهي لا تمت بصلة إلى الهزل، بل تدخل في إطار الهجاء الجاد الذي كان يهدف إلى الصلاح العامم كقول الغزال:

لقد سمعتُ عجِيباً           من أبدات "يُخَـامِرْ"

قرا عليه غــــلامٌ           "طه" وسورةَ "غافر"

فقال: من قال هذا؟         هذا لعمري شــــاعرْ

أردْتُ صـــفْعَ قفاهُ         فخفت صولـــة جائرْ

أتيت يوما بتــــيسٍ        مستعبراً متجـــــاسرْ

فقلتُ: قوموا اذبحوهُ       فقال: إني يُخــــــَامرْ

والمقطوعة في التعريض بالقاضي "يخامر"،  وهي إشارة ذكية وجريئة من "الغزال" في التنبيه على سوء استعمال المنصب. فالرجل لا يحفظ القرآن، ولا يميز بين سوره وبين الشعر، ومن ثمة فإنه لا يرقى إلى المستوى الذي ينبغي أن يكون عليه رجل الدين والقضاء.

            وإن بدت مقطوعات هذا الوزن تتخلص، أحيانا، من جديتها، وتتجه نحو السخرية، أو تبلغ في حدتها منطق الهجاء الذاتي اللاذع، فإن ارتباطها بمقام القضاة والخلفاء، أو ببعض القضايا الاجتماعية، جعلها خارج حدود الرسم الذي سطره حازم لمثل هذا الوزن القصير، وقبله عبد الله الطيب حين اعتبر "المجتث" من الأبحر التي "يحسن فيها تطويل الكلام للإطراب والإمتاع".

            ولم يتطرق سليمان البستاني في صراحة إلى ما يصلح لهذا الغرض من أوزان، إلا ما كان من قوله بصلاحية الطويل، والكامل، والبسيط، والخفيف، لكل نوع من أنواع الشعر. أما بالنسبة للأوزان المتبقية، والتي اتسعت لها ترجمة الإياذة، فاكتفى فيها بصيغ التفضيل، وكفى عنه شر التحصيل.

            وقد وجدنا عبد الله الطيب لا يمانع في معظم هذه الأوزان التي تضمنها الجرد الإحصائي لهجاء الشعر الأندلسي.  ولكنه يشترط "للطويل" شروطا لا يمكن أن تستقيم إلا في الهجاء الجاد. وهو بذلك يحرم هذا الوزن من الهجاء الذي يقصد منه إلى الهزل، ويكون موضوعه شخص بعينه، إن لم أقل، إنه بذلك يمارس نفس الرقابة التي لعبها النقد العربي القديم، حين رفض هذا النوع الشعري، خوفا من الدخول به في دائرة الحقد والابتعاد عن العمق.

            وليس هذا التعارض الحاصل بين عبد الله الطيب وبين الواقع الشعري، في نماذجه اللاهية، سوى إسرار منه على الارتباط بخصائص وزن الطويل التي يلخصها قوله: "وحقيقة الطويل أنه بحر الجلالة والنبالة والجد، ولو قلنا إنه بحر العمق لاستغنينا بهذه الكلمة عن غيرها، لأن العمق لا يمكن أن يتصور بدون جد، وبدون نبل وجلالة".

وإذا كان عبد الله الطيب يستنذ في حكمة إلى أشعار "الفرزدق"،  فإن القبول به كحصيلة أكيدة، ربما يكون غير مطابق لنماذج الهجاء الجاهي الذي احتل فيه الطويل الرتبة الأولى بمعدل(39.78٪).

            والحقيقة أن الواقع الشعري الذي أتحفنا به شعراء الأندلس، لا يعدم مثل هذا التصور الشخصي المعياري لنموذج الهجاء الجاد،  ولا يلغي سابقه.

وتتوزع نماذجه بين الغزال، وابن عبد ربه، وابن شهيد، والألبيري، وابن خفاجة، وأبي حيان، وابن الخطيب، وابن فركون. وتزداد صورة هذا النوع من الهجاء، أكثر وضوحا كلما توجهنا نحو الأوزان التي قمنا بحصرها، فهي تكاد تعم نتاج جميع الشعراء الذين طرقوا هذا الغرض الشعري.

وقد رأينا كيف استجاب "المجتث" كأحد الأوزان القصيرة، أو "الطائشة" لهذا النوع الشعري، وكيف استجابت البحور الكثيرة المقاطع للهجاء الذي يقصد منه إلى الهزل كالطويل، والبسيط، والكامل، وذلك في معرض ردنا على حازم القرطاجني، وعبد الله الطيب، ثم كيف خلصنا للحديث عن الأوزان الطويلة واتساعها للهجاء.

ويمكن أن نختار كنموذج شعري على مصداقية رأي عبد الله الطيب خاصة، هذه المقطوعة التي يقول فيها ابن خفاجة:  [طويل]

لعمري لو أوْضعتَ في منهج التقى         لكان لنا في كل صالحـة نهجُ

فما يَسْتَقيمُ الأمر والمُلْكُ جائـــرٌ  وهل يستقِيمُ الظِّلُّ والعودُ مُعَوَّجُ

فهي تقدم نقدا موجزا عن جور الحكام وتسلطهم على الرعية، في أسلوب تملأه اللمحة الدالة، والنظرة الحكمية التي تتطلب وزنا كثير المقاطع، يصب فيه الشاعر تأملاته وآرائه النقدية.

            ولم يكن ابن خفاجة، سوى فرد من بين مجموعة من الشعراء الذين لم يتوانوا في تسديد انتقاداتهم وتوجيهاتهم السامية، قصد تدارك ما يراه كل واحد منهم يتهاوى تحت ظل هذه الحضارة الفتية التي رامت الانغماس في الترف والملذات، فحادت عن النهج السليم، حتى فيما يتعلق بتدبير الحكم من طرف الخلفاء، والقضاة، والفقهاء، وغيرهم من ذوي السلطة والمسؤولية.

وهكذا لم يتأخر الشاعر الأندلسي، باعتباره صاحب رسالة سامية، في إبداء انتقاداته وتوزيعها ما بين النقد الاجتماعي والنقد السياسي والديني،  فراح يحذر من فساد الأخلاق، ومن شيوع البدع، والموبقات، والمحرمات، وانتشار الدسائس، والكذب، والرياء، والرشوة، وغير ذلك من القضايا التي تمس بالحكم الأندلسي الذي ما فتئ نتيجة لواحدة من هذه الأسباب أن انتهى إلى السقوط والزوال، بعد ذهاب كل القيم الإسلامية التي كان يرتكز عليها الحكم العربي في عهد الرسول (ص) وصحابته الكرام.

ويمكن أن نسوق مثالا على ذهاب القيم الاجتماعية، هذا النموذج الساخر الذي اختار له الغزال وزن "الخفيف" مجالا إيقاعيا، فصب فيه من سخريته وغضبه ما نفس عنه حزنه وألمه:

لا، ومن أَعْمَلِ المَطَايَا إِلَيْهِ         كلُّ من يرتجي إليه نصيباَ

ما أرى هَهُنَا من الناس إلا         ثعْلَباً يطلب الدجاج وذيبا

أو شبيهاً بالقط ألقى بعينيـ          ـه إلى فأرة يريد الوثوبا

وتتجلى الرؤية الجادة من هذه السخرية، في الدعوة إلى قيام مجتمع سليم، تربط بين أفراده أواصر المحبة والمصلحة العامة، بدل المصلحة الفردية التي أصبح لا يميز فيها بين الإنسان وبين الذئب والثعلب والقط.

وتظهر هذه السخرية بصورة أكثر بروزا، سواء على مستوى الكم، أو على مستوى تنويع الأوزان، في القصائد الهجائية التي كانت تسدد بصفة خاصة إلى القضاة والفقهاء، ثم من بعدهم الوزراء الذين أساؤوا استخدام سلطتهم، فعبثوا بالأحكام الدينية والدنيوية والسياسية.

ولنا في النماذج التي تستهدف القضاة، ما يغني الحديث عن قضية الوزن والغرض على أكثر من واجهة. فهي من ناحية الكم، تستأثر باهتمام معظم الشعراء الأندلسيين، ولا تتوقف على وزن معين،  إلا بحسب ما رأيناه من ميل نحو الأوزان الكثيرة المقاطع، والتي تحتفظ بالمراتب الأولى على مستوى الشيوع.

وقد جاءت هذه الأشعار في غاية الجودة والبساطة والوضوح، ومن غير أن تبدو نابية في هذا الوزن ومستقيمة على الآخر. من ذلك، قول عبد الكريم القيسي معرضا ببعض القضاة:  [الكامل]

يا أهْلَ بسْطَةَ دعْوةٌ منْ مُشـْفِقٍ    لوْ فِيكُمْ منْ لدُعَاِئهِ مَنْ يسمُع

إنَّ القَضـــَاَء وظيفةٌ دينــيةٌ        ما قطُّ قام بـحقــها منْ يَسْمَعُ

وأَرى الذِّي وُلِيَ القضاءَ بِمَصْرِكُمْ           قد صارَ يطْمَعُ بالقَضَاءِ ويَجْمَعُ

والحنْش محـــْكُومٌ عليه بأنـه      لِسِواهُ مبْـــتَلع إذا ما يلْمَـعُ

وإن الفتى لقضـــائِه لم يفْتـَقِرْ     قال الرسول فسارقٌ لا يَقْــطَعُ

وتعالج هذه المقطوعة، في سخرية لاذعة، ظاهرة الرشوة والجشع التي كان يتصف بها القضاة بدافع الإثراء السريع. وتكاد لا تجد قطعة فيهم تخلو من وصفهم بالرشوة، والدجل والرياء، والجهل، وإحلال المحرمات، واستعمال السلطة، والدين في تحقيق المصالح الفردية. ولا يستثنى من ذلك، ما قيل فيهم من مقطعات يجوز ضمها إلى الهجاء الساخر لذاته، كقول ابن الخطيب،  في القاضي جعسوس:   [وافر].

إذا "جعْسوسٌ"جاءَ الى صَلاةٍ     وطالَعَنَا بطَلْعَتِهِ النّـحِيسَهْ

رأيْنا منْ يَديْهِ ومن قـــَفاهُ           صَليباً قد أطلَّ علَى كَنيسَهْ

وهذا النموذج لا يختلف عن سابقيه من الارتباط بوزن معين، ولا يختلف عن قول الشاعر من نفس المعنى:  [م. الكامل]

ما عِمَّةُ البُنِّيِّ إِلاَّ ذاتُ أَشْكالٍ طَريفَةْ

فكأنها من حولهِ ملفوفةٌ وبه مطيفةْ

عَصْبَاَنَةٌ مذْ كُوِّرَتْ        أمْعَاؤُها بعظامِ جيفَةْ

وريما قد يطمئن المرء إلى القول بقرب هذين النموذجين من الهجاء الهادف، لاتصالهما بالقضاة، كنادرة، دفعت بالشعراء إلى طرق اكثر المناحي الشعرية الممكنة لكسر شوكة هؤلاء الفقهاء، وتل عروشهم. إلا أن ذلك لا يستقيم من وجهة النظر التي تخص الأوزان الطويلة-دائما- بالأغراض الجادة، وتلصق الأوزان القصيرة والمجزوءة بالأغراض الطائشة.

وتتظافر النماذج التي أتينا على ذكرها(الساخرة، والهادفة) في إعطاء صورة واضحة عن ضياع قضية الوزن والغرض كما حددها الاتجاه المؤيد، في شخص حازم القرطاجني، خاصة.

واضطراب هذه العلاقة، هي التي حدت بجيل آخر إلى محو الحدود الفاصلة بين الأوزان الشعرية، والعمل على تقسيمها إلى مجموعتين، كل مجموعة نرتبط بحالة عامة من أحوال النفس، وفي إطار إحدى هذه الحالات يختار الشاعر وزنا من أوزان المجموعتين اختيارا تلقائيا.

ورغم ما تمتاز به وجهة النظر هذه، من مرونة تتجلى في الحرية التلقائية التي تمنح للشاعر ساعة النظم، فإنه يصعب في ضوء النماذج التي يوفرها لنا الشعر الهجائي، أن نقول بصلاحية الأوزان الطويلة لحالات من اليأس والجزع، وبصلاحية الأوزان القصيرة لحالات الانفعال الشديد.

وقد رأينا كيف عبر الشاعر في وزن الكامل عن سخطه وغضبه من قاضي بسطة، وكيف سخر في "الوافر" من "جعسوس"، دون أن نلمح أثرا لهذا الغضب والجزع، لا فرق بين هذين النموذجين، وبين قول الشاعر من "مجزوء الكامل":

عجبا لقاضٍ حُكْمُهُ         أمضى من السُّمْرٍ الرقاقِ

جازتْ شهادات النِّسَا      ء لديه حتَّى في الطَّلاقِ

وبين قوله من نفئ الوزن: 

إن الدَّقيق ولعْقِه لَمِنَ السَّكينة والوقارِ

للهِ درُّك قــــاضيّاً           قد جاء في مِسْلاَحِ فارْ

لعِق الــهريسة جاهداً      والليل مسدول الإزارْ

وأتى لمــجلسِ حُكْمِهِ      وعليه آثار الــغبارْ

شهِدَتْ على ترْكِ الوضُوء          وكانَ عاراً أيُّ عـارْ

وإذا كانت هذه النماذج تنقض بعضها، وتؤكد في جانب منها على صدق هذه النظرية، فإن أغلب النماذج الهجائية لا تسمح بهذا التأويل. فالسخرية والفكاهة والقدرة على التهكم والتندر تشع فيها جميعا،  ناهيك عن سهولة التعبير، وقرب المعاني من الأفكار العادية المألوفة بين عوام الناس،  لا فرق في ذلك بين نماذج الأوزان الطويلة، وبين نماذج الأوزان القصيرة.

            أما فيما يتعلق "بالتلقائية" التي نفترض أنها كانت توجه الشاعر في اختياره للوزن الذي يصدف له، وأن المقطعات الصغيرة، غالبا ما تكون وليدة الفطنة وسرعة الخاطر، لتجافيها عن التكلف والتقعر وإطالة التفكير، فإن جري الشعراء وراء الأوزان التي حظيت بنسبة عالية من الشيوع، يقلل من هذه التلقائية، ويفسح المجال أمام الهيمنة التاريخية للوزن الشعري بين إجماع الشعراء وأغراضهم، للإسهام في صنع هذه العلاقة، لا دخل في ذلك للمواقف والحالات التي يعبر عنها إلا بالقدر الذي يسمح لهما به أحيانا.

            وتشير النسب إلى اختصاص الهجاء في الدرجة الأولى، بأوزان المدح الثلاثة الأولى، دون اختلاف في ترتيبها. وذلك على نقيض ما خصه به حازم من أوزان طائشة قليلة البهاء، إذا نحن استثنينا وزن "السريع" الذي احتل مع البسيط الرتبة الثالثة بعد الطويل والكامل، وبعد أن كان يحتل الرتبة السابعة في غرض المدح.

ونصيب هذه الأوزان الأربعة، يفوق نصف شعر الهجاء الأندلسي، حيث يقدر ب (61.70 ٪)  من الوحدات، و(58.75٪) من الأبيات، و(61 ٪) من المقطعات، و (68.17٪) من القصائد، أما نسبتها من التداول، فبلغت من الطويل (48.14٪)، وفي الكامل (40.74٪)، وفي البسيط، والسريع (37.03٪).

وتتوزع بقية النسب، مجموعتين من الأوزان، توجد على علاقة بالهجاء بمعدل أقل من سابقاتها، وتضم أولاها: الخفيف، والوافر، والمتقارب بمجموع معدل يقدر ب(20.25٪) من الوحدات، (22.79٪) من المقطعات، و(22.72٪) من القصائد. وقد سجلنا خلو "المتقارب" من القصائد الهجائية، واقتصاره على المقطوعات منها لنسبة لا تزيد عن (5٪). أما نسبتها من التداول، فنزلت إلى (33.33٪) في الخفيف والوافر، وإلى (29.62٪) في وزن المتقارب.

وتضم المجموعة الأخيرة، وبنسب ضعيفة جدا: المنسرح، والمجتث، ومجزوء الرمل، ومجزوء الكامل، ومخلع البسيط، والرمل، ومجزوء الخفيف، ومشطور الرجز، ومجزوء الوافر، والهزج. وهذه الأوزان، لا تتعدى استعمالاتها الفردية سبع وحدات، وهي دون ذلك في أغلبيتها، ولا تتجاوز نسبة (18.51٪) من التداول، ولا تخرج في الأوزان الخمسة الأخيرة عن اختيار شاعر واحد. وتقدر نسبتها العامة ب (18 ٪) من الوحدات، (18.36٪) من الأبيات، (19٪) من المقطعات، و(9.08٪) من القصائد في "المنسرح" و"مخلع البسيط" دون غيرها من أوزان هذه المجموعة الأخيرة.

ولم أجد أحدا نوع من استخدام هذه الأوزان في مجموعها، غير ابن الخطيب، ومن بعده يحيى بن الحكم الغزال، ثم عبد الكريم القيسي. وقد وجدت هذا الأخير قد أعطى الأولوية للكامل خلاف سابقيه.  أما باقي شعراء المتن الهجائي، فخالفوا في اختياراتهم بين هذه الأوزان، دون الإكثار من أوزان المجموعتين الأخيرتين، وكان هذا شأنهم جميعا مع هذه المجالات الإيقاعية، لذلك بدت في علاقتها بالهجاء متوسطة إلى ضعيفة، وخالية من معظم الانتاجات الفردية.

وعلى العموم فقد سار الأندلسي في ركب اختيارات الجاهلي لأوزانه الهجائية، ولم يخالفه إلا مرتين أو ثلاث مرات. مرة حين أنزل "الوافر" من الرتبة الثانية إلى الرتبة السادسة. ومرة حين عاد بـ"السريع" من الرتبة العاشرة إلى الرتبة الثالثة.  وهذا التحول في نظري مرده إلى نسبة اختلاف شيوع أوزانها وأغراضها الشعرية،  وإلى الدور الذي لعبته الهيمنة، في ظل عوامل كثيرة، كانت وراء توجيه الشعرين وجهة مختلفة، دفعت بالجاهلي إلى الاقتصار على الأوزان الطويلة والابتعاد عن الأوزان القصيرة إلا ما كان من "مجزوء الكامل"، و"مشطور الرجز" اللذين احتلا عنده موقعا متميزا في علاقتهما بالهجاء، بنسبة بلغت في الأول(6.30٪)، وفي الثاني (5.38٪).

وربما بدافع من التقليد أيضا، وجدنا الشاعر الأندلسي يقتفي أثره، ويتجاوزه ثالثة في ظل الظروف السابقة، إلى تجريب أوزان أخرى لم تكن محبوبة بين شعراء الجاهلية، فخص بها هجائياته بنسبة (10.35٪). وهذه الأوزان هي المجتث، ومجزوء الرمل، ومخلع البسيط، ومجزوء الخفيف، ومجزوء الوافر، والهزج. وهي أوزان تكاد تختفي بصفة نهائية من الشعر الجاهلي، بحيث لا تشكل سوى نسبة (0.78٪) أي ما يعادل خمسة عشرة وحدة شعرية.  في حين بلغت نسبتها في الشعر الأندلسي إلى (6.19٪)، وتعادل هذه النسبة ثلاثمائة وثماني(308) وحدة شعرية، وهذا وحده كاف لتفسير قيمة الهيمنة في فهم تناسب الوزن والغرض.

 

 

5 ـ  الرثاء:

الرثاء في اللغة، بكاء الميت، ومدحه بعد موته، وكذلك إذا قيل فيه شعر. ومن مغانيه: ما يرثي فلان لي، أي ما يتوجع ولا يبالي. ورثى له: أي رق له، ورأف له، ولرأف لحاله.

وتتآلف هذه المعاني في تقيم مفهوم اصطلاحي متكامل لهذا الغرض الشعري الذي يستمد خصائصه من مقومات المدح، مع ما تتضمنه هذه المعاني من رقة وحزن وتوجع.

            فقد عرَّفه قدامة بن جعفر بقوله: "ليس بين المرثية والمدحة فصل إلا أن يذكر في اللفظ ما يدل على أنه لهالك... لأن تأبين الميت إنما هو بمثل ما كان يمدح به في حياته".

            ومن أنواعه: التوجع، والتأبين، والتعزية،. يقول أبو البقاء الرندي: "وأما التوجع فيكون بتعظيم الرزء، وإجلال الخطب، وإعمال التأسف. وأما التأبين: فبذكر مآثر المرثي ومكارمه، ووصف ما يجب له. وأما التعزية: فبالأخص على الصبر، والترغيب في الأجر، والتأسي بالسلف فيما ناب من فجائع الدنيا وقوارع البلوى، ليأسى بذلك ولي الهالك".

            ويبدو من الصعب على المستوى التطبيقي، وضع حدود فاصلة بين هذه الأنواع،  وما قد تستدعيه من أوزان مختلفة، بحسب اختلاف طبيعتها، واختلاف نمط القول فيها، وتداخل معانيها في معجم الأحيان.

            ثم إننا لا نجد أحدا من النقاد، غير أبي البقاء الرندي، أشار إلى هذه التفريعات في تعريفه لغرض الرثاء، سوى ما كان من النوع الأول الذي تضمنه قول ابن رشيق: "وسبيل الرثاء أن يكون ظاهر التفجع بين الحسرة، مخلوطاً بالتلهف والأسف والحزن والاستعظام إن كان الميت ملكاً أو رئيساً كبيرا".

ويعتبر حازم القرطاجني أحد هؤلاء النقاد الذين لم يميزوا بين هذه الأنحاء الثلاثة، فاكتفى بتسطير قاعدة عامة صدر فيها من بناء المرثية نفسها، مفادها أن "الرثاء" يجب أن يكون شاجي الأقاويل، مبكي المعاني، مثيرا للتباريح، وأن يكون بألفاظ مألوفة في وزن متناسب ملذوذ".

والرثاء من أصعب أنواع الشعر "لأنه لا يعمل رغبة ولا رهبة"،  والأصل فيه أن ينزع إلى الصدق والقوة والحرارة. وقد "قيل لأعرابي ما بال المراثي أجود أشعاركم. فقال: لأنا نقول وأكبادنا تحترق".  إلا أن الغالب على الرثاء الذي مبعثه التكسب، الضعف والفتور. قال أحمد بن يوسف الكاتب لأبي الحزيمي: "أنت في مدائحك لمحمد بن منصور كاتب البرامكة أشعر منك في مراثيك له. فقال: كنا يومئذ نعمل على الرجاء، ونحن اليوم نعمل على الوفاء".  وهذا النوع غالبا ما يقصد به إلى التعزية، أكثر من اتجاهه إلى الحزن على الفقيد والتوجع عليه، وإبداء الألم الشديد لفقده.

ويمكن أن نذهب إلى أبعد من ذلك، فتأخذ  برأي شوقي ضيف الذي يجعل الرثاء من الموضوعات التي تتصل اتصالا واضحا بالحماسة الجاهلية، حيث يقول: "فقد كانوا يرثون أبطالهم في قصائد حماسية يريدون بها أنْ يُثيروا قبائلَهم؛ لتأخذَ بثأرهم، فكانوا يُمجِّدون خلالَهم، ويصِفون مناقبهم، التي فقدتْها القبيلة فيهم؛ حتى تنفر إلى حرب مَن قتلوهم، وكان يُشاركُ الرجالَ في ذلك النساءُ، فقد كُنَّ ما يزلن ينُحن على القتيل؛ حتى تثأر القبيلة له".

وإذا كان الرثاء قد تخلى عن هذه الوظيفة بدخول الإسلام، وبعد أن تهيأت عوامل التأليف والتنظير، فإنه لم يستطع أن يتخلص من الحمولة الثقافية التي كانت تمتاز بها الأوزان الطويلة بين الأوساط الإبداعية والنقدية، بالأحرى وقد قوّمه النقد العربي على أساس أنه مدح بصيغة الماضي.

فقد تم النظر إلى الرثاء في ظل القواعد البلاطية التي كانت تؤرخ للسادة والكبراء من ذوي السلطة والجاه حتى بعد رحيلهم، إما وفاء من الشاعر لهم، أو حرصا على إبرام تعاقد جديد مع أحد أقاربهم.

ومن ثمة، فقد توجب على الشاعر أن يسلك القواعد التي تضمن نجاح "المدحة" فيتغنى بفضائل الميت وبخصاله التي كان يمدح بها في حياته. وفي ذلك يقول قدامة: "فإصابة المعنى به ومواجة غرضه أن يجري الأمر فيه على سبيل المدح".

ونماذجه وإن لم تكن تختص بالطبقة الحاكمة فقط، فإنها قد حافظت في جميع الأحوال على هذا الإرث الثقافي القديم الذي يشد الرثاء إلى الأوزان الطويلة في الأغلب من الأحيان. وقد نبه ابن سينا إلى هذه الخاصية الشكلية في تلخيصه لكتاب الشعر، حين قال: "وكذلك كان يعمل بطراغوديا، وهو المديح الذي يقصد به إنسان حي أو ميت وكانوا يغنون به غناء فحلا، وكانوا يبتدئون فيذكرون الفضائل والمحاسن ثم ينسبونها الى واحد: فإن كان ميتا زادوا في طول البيت أو في لحنه نغمات تدل على أنها مرثية ونياحة".

والحقيقة أن هذه المعطيات النقدية، لا يمكن أن تبدو مفيدة في فهم إشكالية الوزن والغرض، ما لم يتم النظر إليها مقرونة بالخاصية المميزة للرثاء، والتي تتجلى في طابعه الحزين، وما تتطلبه من رقة وحسرة، وتلهف، أو إعمال تأسف، سواء قصد به إلى التأبين، أو التوجع، أو إلى التعزية، أم قصد به إلى ذلك جميعا.

فاستحضار هذه المعاني التي تؤلف مقصدية الرثاء، تؤكد إلى حد ما المقولة التي تربط الأوزان الطويلة بحالة الحزن والجزع. وقد بينا كيف اختلفت مقاصد الشعراء في مراثيهم من حيث صدق العاطفة أو تكلفها، أي بحسب أهمية المرثي، وأثره في نفس الشاعر. وسنلاحظ كيف تعمل هذه المعطيات في توجيه الشعراء نحو الأوزان التي تصدف لهم، وتبدو معبرة عن قصدهم.

ويمكن أن نأخذ كنموذج جامع لهذه المعطيات النقدية قول "ابن فركون" في رثاء شقيق ملك غرناطة أبي الحسن على الملقب بمعز الدين:   [طويل]:

فيا نَجْمَ أُفُقٍ قد هوى بــــيَدِ النـوى          وما كان إلا للــهداية أطلـــــــعا

ويا غَيْثَ سُحْبٍ طالما جادَ بِالنـَّدَى          فرَوَّى جَناباً قد ذَوَى حينَ أقْلَـــعَا

ويا بدْرَ تِرْبٍ ضَمَّهُ التُّرْبُ مُغْـرِباً           مـــــودعَا          فما باله في التُّرْبِ أصْبَحَ مـودَعَا

رَحَلْتَ فما خلَّفْتَ إلا مـــُرَوَّعاً    مَشوقاً مُعنَّى مُغْرمَ القلبِ موجعا

 

تنتمي هذه القصيدة إلى المراثي "البلاطية" التي تذهب مذهب الجلالة في اختيار ألفاظها ومعانيها وطول نفسها الشعري، سواء على المستوى الأفقي، أو على مستوى عدد الأبيات. وقد صدر فيها الشاعر عن إلمام كبير بالمعطيات التي تسيج غرض الرثاء، فلم يترك معنى من المعاني التي كان يمدح بها هذا الأمير في حياته، إلا وضمنها قصيدته، وساق كل ذلك في جمل شعرية طويلة، تسمح باستيعاب آهاته وأحزانه، يقيده في ذلك كل ما يستدعيه الموقف من حض على الصبر، والتأسي بقوارع البلوى، حيث قال في مطلع قصيدته معزيا يوسف الثالث، ومهدئا من روعه فيما ابتلي به:

 

 عزاءً فإن الخطْبَ قد جلَّ مَوْقِعا وصبرا وإن لم يبق للصبر مَوْضِعَا

تأَسَّ أَميرُ المسلمينَ فــإنه           وُرُودُ سبيلٍ لم يـزلْ مُتَوقَّعَا

تعزَّ إمام الأكـــرمينَ فإن في      مــــودعَا           فإن في بقائكَ فينا للحوادث مَرْدَعَا

 

أما الرثاء الذي نظمه الشعراء في البكاء عن المدن والإمارات البائدة والمجد الغابر، فكان أكثر صدقا ورقة، لما في نفوسهم من محبة صادقة لوطنهم، وشغف عظيم بجمال طبيعيته وعمرانه.

وقريب من هذا الرثاء الذي يصدر فيه الشاعر عن معاناة حقيقية، تلك المراثي التي كانت تبكي الآباء والأمهات والأبناء، أو من هم في منزلتهم من الأحباب والأصفياء. فالشاعر لا يصدر فيها عن رغبة أو رهبة، وإنما عن إحساس بعظيم الحزن والتوجع فيما فجع به.

ولهذه الأسباب مجتمعة، وجد الشاعر الأندلسي نفسه أمام عدد هائل من الإمكانات الإيقاعية يتضح من جردها الإحصائي، أن معظم هذه الأوزان- وخاصة منها الطويلة- لا تتماشى مع نظرية حازم القرطاجني التي تقول: "وأما المقاصد التي يقصد فيها إظهار الشجو والاكتئاب، فقد يليق بها الأعاريض التي فيها حنان ورقة...، لأن المقصود بحسب هذا الغرض أن تحاكى الحال الشاجية بما يناسبها من لفظ ونمط تأليف ووزن...، وذلك نحو المديد والرمل".

وعدم خضوع الشاعر لهذه القاعدة، لا ينظر إلى ما يطبع هذا الغرض من رقة، وإنما ينظر إلى معانيه التي تؤلف بينه وبين المدح. أما بالنسبة لصيغة الحزن والأسى التي يجب أن تميزه عن المدح، فللاتجاه الإيقاعي وجهة نظر لا تخدم رأي حازم القرطاجني.

ومن النماذج الصالحة للأوزان الطويلة، تلك المراثي التي تنطلق من الذات الشاعرة، ويكون موضوعها بكاء الأهل أوالوطن.

ويمثل شعر المعتمد بن عباد، بعد سقوطه والزج به في سجن أغمات بعيدا عن وطنه وملكه،  أرقى نماذج اللون الأول تعبيرا عن صلاحية الأوزان الطويلة لاحتواء مثل هذه الفجيعة المؤلمة التي حطت بأظافرها على المعتمد، وقد نعي إليه خبر مقتل ابنيه: المامون، والراضي على يد جيوش ابن تاشفين (طويل ):

يقولون صبرا، لا سبيل إلى الصبر        سَأَبكي وَأَبكي ما تَطـاوَل مِن عُمري

نَرى زُهرَها في مأتمٍ كُلَّ لَيــلَةٍ    يُخَمّشنَ لَهَفاً وَسطَهُ صَفحَةَ الــبَدرِ

يَنُحنَ عَلى نَجمَين أَثكَلــنَ ذا وَذا وَيا صَبرُ ما لِلقَلبِ في الصَبر مِن عُذرِ

مَدى الدهر فَليَبكِ الغَمام مُـصابَهُ  بِصنوَيهِ يُعذَر في البُكاءِ مَــدى الدهرِ

والقصيدة تعبير صادق عن الآلام التي أحسها الشاعر، وهو يرى في شخصه الملك الأسير الذي لم يعد يملك سوى الدموع والزفرات الحرى، يطلقها في جمل طويلة معبرة عن هذه الحالة المزرية التي مست أهله جميعا، فخطفت المامون، والراضي، وهدت منه ومن زوجته العليلة وبناته الحسيرات: 

لَو عُدتَما لاخترتُما العودَ في الثَرى         إِذا أَنتُما أَبصَرتُمـــانيَ في الأَسرِ

يُعيدُ عَلى سَمعي الحَديدُ نَــشيدَهُ   ثَقيلاً فَتَبكي العــَينُ بالجسّ وَالـنَقرِ

مَعي الأَخَوات الهالِكــات عَلَيكُما وَأمّكما الثَكلى المُـــضَرّمة الصـَدرِ

تُذَلِلُها الذِكرى فَتَـزَعُ لِلبُــكا         وَتَصبر في الأَحيان شُحّاً عَلى الأَجـرِ

إن الخطب الجلل الذي كانت تتمزق له نفسية ابن عباد، هو الذي دفعه إلى أن ينظم مراثيه على أطول أوزان الشعر العربي، وأنسبها للتعبير عن الحالات اليأس والجزع،  وما يؤلف بينهما من حزن وأسى عميق، يعتبر السمة الغالبة على شعر المراثي.

وقد وجدناه فاضل بين الطويل والبسيط، فاختار أولهما خمس مرات، وجاء بالبسيط مرتين. أما الشعراء الذين هالهم أمره، فلم يخالفوه النهج في اختياراتهم لما هو أرحب من هذه الأوزان اتساعا لبكائهم على مجد ابن عباد ووفائهم لحبهـ إلا ما كان من تنويع شمل الكامل، والوافر، والخفيف، واقتصر على شعر ابن اللبانة الذي أكثرهم وفاء له.

وتلتقي هذه النماذج مجتمعة، مع نوع الرثاء الذي يبكي الأوطان، وذهاب السلطان، خاصة فيما تتطلبه هذه الأخيرة من أوزان طويلة تستطيع نقل جسامة المصاب. وهي لا تختلف عن غيرها إلا من حيث اتجاهها نحو استدعاء التاريخ، والحكم، والأمثال، وقوارع الزمن وبلوائه.

وهذا لا يعني خلو قصائد الشواهد السابقة أو أغلبها من مثل هذه النظرات العقلية، أو خلو هذه الأخيرة من العواطف الذاتية والتوجعات النفسية والزفرات الحرى، بل ثمة فرق دقيق بين استخدام هذه النظرات. فنحن هنا لم نعد أمام شعر عزائي يتوجه إلى الذات الفردية، فيخفف من بلوائها عن طريق استدعائها إلى الارتكان لأحكام الله في عباده، وإنما أصبحنا أقرب ما نكون أمام رثاء جاهلي حماسي، يستهدف تحريك النفوس والهمم، والدفع بها إلى الثأر  بدل الارتكان إلى الحزن العميق. وفي ذلك يقول ابن عبدون، من قصيدة في رثاء بني الأافطس التي دخلتها جيوش المرابطين سنة 487هـ، وقتلت بها المتوكل وولديه الفضل والعباس:   [بسيط] 

أنهاك أنهاك لا ألو ك موعــظة   عن نوْمةٍ بين نابِ الَّليْــثِ والظُّــفُرِ

فالدهرُ حرْبٌ وإنْ أبْدَى مُسَالمَةً   والِبيضُ والسُّودُ مثْلَ البِيضِ والسُّمْرِ

وقد ذكر فيها الشاعر من العبر التي تستقي موادها من التاريخ والحكم والأمثال، ما جعلها أنسب في بحر البسيط لطوله وبهائه. ولم يكن فيها ابن عبدون ذلك الإنسان المكلوم فقط، بل كان أيضا ذلك الخطيب صاحب الصوت الجهير، والكلمة المؤثرة، والوزن الخطابي الطويل الذي ينقل إليك المعنى ويؤكد عليه من خلال مقاطعه الطويلة التي تتجه في معناها ومبناها، نحو مخاطبة العقل أكثر من اكتفائها بمخاطبة العاطفة، كقوله: 

سحقاً ليومكم يوما،ً ولا حمـلت    بمثله ليلـــة في غابـر العمـــرِ

من للأُسرَّةِ، أو من للأعنَّة، أو    من للأسِنّة يُهْديـــها إلى الثَّــغْر

من للظُّبَى وعوالِي الحطِّ قد عقدت          أطرافِ ألْسُنِها بالعَيِّ والحَصْـــرِ

وطوقَّت بالمنايا السُّود بيضُــهم   فَأَعْجِبْ لذاك وما منها سوى الذِّكـــْرِ

من لليراعَةِ أو من للبراعَـــةِ أو من للسَّماحةِ أو للنَّفْـعِ والضّــــرَرِ

أو دفْع كارثـــــةٍ أو ردْع أزِفةٍ    أو قمْعَ حادثةٍ تَعْيــَا على القــُدَرِ

وَيْبَ السَّماحِ ووَيْبَ البَأْسِ لوْ سَلِمَا          وحسْرةِ الدِّينِ والدُّنْيَـا علَى عُمَـــرِ

وقد كان الميل إلى الأوزان الطويلة، السمة الغالبة على الأشعار التي بكت الأندلس الحبيب،  ونادت من خلال الدمعة الحزينة، أو الثائرة إلى تداركها وإنقاذها من التسوس الذي أخذ ينخر عظامها بدءا من سقوك غرناطة سنة 479هـ.

ولم يكن اختيارنا لهذه النماذج التي حظي فيها "الطويل" بالاهتمام الأول، اختيارا متعمدا، بل فرضته علينا طبيعة الرثاء، في اختلاف مقاصده السالفة، ومدى اتساعه لهذا الوزن الذي جاوز (38.72٪) من الوحدات، (38.22٪) من الأبيات، (42.02٪) من المقطعات، (37.03٪) من القصائد، و(70.37٪) من التداول.

وقد التفت عبد الله الطيب إلى أتساع "الطويل" للرثاء المحض والحزن العميق، ثم أخضع الكامل، والبسيط لذوقه، وجعلهما يشتدان حينما يراد بهما إلى الشدة، ويلينان حينما يراد بهما إلى اللين، وقبل أيضا بدخول الرثاء مجال الوافر، والخفيف.

ومن يتأمل النتائج الإحصائية لمراثي الجاهليين، أو لمراثي شعراء الرثاء في السيرة النبوية،  لن يمانع في القول بصلاحية الرثاء لهذه الأوزان التي حافظ الشعر الأندلسي على صدارتها بمعدل (84.79٪) من الوحدات، و (87.02٪) من الأبيات، و (78.23٪) من المقطعات، و (87.38٪) من القصائد.

أما نسبتها من التداول، فتصل في الطويل (70.37٪)، في حين لا تتجاوز "الكامل"، و "البسيط" (55.55٪) لقرب نسب وحداتها وعلو شأن الطويل عليها. وغالبية الشعراء الذين اختاروا هذه المجالات الإيقاعية، نادرا ما كانوا بين أهمية الطويل وبين الكامل والبسيط، إلا ما كان من اختيار التطيلي وابن عبدون "للبسيط" الذي فاق عندهما "الطويل" بفارق لا يتعدى وحدتين شعريتين، ثم اختار عبد الكريم القيسي الذي يزد فيهما عن وحدة شعرية.

أما ابن هانئ وابن زيدون، فقد اتفقا على تغييب الطويل والبسيط. وانفرد ابن دراج بتنكب الطويل والكامل. وعمل غير هؤلاء على تغييب الكامل تارة، وتنكب البسيط تارة أخرى. فغاب الأول عن ابن عباد، وابن اللبانة، وأمية الداني، وابن عبدون، وأبي حيان الأندلسي. وغاب الثاني عن ابن شهيد، والألبيري، والرصافي البلنسي وابن سهل.

ويعتبر ابن حمديس وابن الخطيب وحدهما من بين الشعراء الذين ركبوا أوزان: الخفيف، والوافر، والمتقارب. في حين اختار غيرهما، فيما بين "الخفيف والمتقارب" وبين "الخفيف والوافر". وقد غاب الأول والثاني عن مراثي شاعرين فقط، هما: أبو حيان وعبد الكريم القيسي. أما الخفيف والمتقارب، فاتسعت دائرة غيابهما بين الشعراء الذين اختاروا بين هذه الأوزان، فشمل مراثي أمية الداني، ويوسف الثالث، والرصافي البلنسي، وابن الآبار.

أما حاصل الإنتاج الفردي لوزن "المنسرح" فلا يتعدى خمس وحدات، ولا يخرج عن تداول ابن عبد ربه، وابن هانئ، وابن حمديس، وابن الخطيب، ويوسف الثالث. بل إنه لا يتجاوز في "السريع" أربع وحدات، ومعدل (7.78٪) من التداول.

 وتكفي النتائح الإحصائية، في مقاييسها المتعددة- لرفض رأي حازم القرطاجني في "الرمل المديد" جملة وتفصيلا، حيث أن معدلها معا لا يزيد عن (3.87٪) من الأبيات، (5.78٪) من المقطعات، (2.22٪) من القصائد، و(3.43٪) من الوحدات. أما نسبتها من التداول، فتنحصر ما بين (11.11٪)  في وزن الرمل، وبين (7.40٪) في وزن المديد.

ونفور الشعراء من هذين الوزنين، لا ينظر إلى ما يمتاز به من خصائص موسيقية، بقدر ما ينصرف إلى أهميتها من التداول بين أغراض الشعر العربي. وقد حاولت من خلال ما توفر لدي من نصوص، بحث هذه الخصائص فيما إذا كانت تجعل الرمل والمديد أخص بالرثاء،  فوجدت في قصيدة ابن هانئ التي تقدم بها إلى ولد إبراهيم بن جعفر،  نموذجا لا يختلف عن مذهب الشعراء في المراثي السلطانية التي حازت كل الأوزان الطويلة، إلا من حيث استدعائها-هذه المرة- لوزن الرمل، ليس لأنه يضيق قليلا عن الفضاء الذي تتمتع به البحور الطوال، أو باعتباره وزنا فيه لون من اللين والرقة، بل لأنه لا يتصف بأية خاصيات موسيقية ثابتة. وإذا افترضنا أن هذه الوزن يتمتع بهذه الخاصيات في حالته المجردة، فإننا لا نحس له في قصيدة ابن هانئ بهذه الخصائص، خصوصا وأن الشاعر قد مال به إلى التجلد بدل إظهار الحزن، فقال: 

يا أبا أحْمَدَ والحكـمةُ في             قولِ من قال إلى الله المـرَدْ

لا ملومٌ أنت في بعض الأسى     غيرَ أنَّ الحُرَّ أولى بالـــجَلَدْ

وإذا ما جهَشَتْ نــفسُ الفَتى        كان في عسكره الصَّبرُ مَدَدْ

لو يَرُدُّ الحزْنُ مَيْتاً هالِكــــاً         رُدَّ قحــطانُ وَردَّ بـــنُ أُدَدْ

واكتستْ أعظُمُ كسرَى لحمَها      وسعى لُقمـــــانُ أو طار لُبَدْ

في عليٍّ من عليٍّ أُسْــوَةٌ صَدَعَ الضِّلعَ الذي أنكى الكَبِدْ

وفي هذه الخصائص التي يمكن أن تظهر في معرض الحزن والألم، تختفي بصفة نهائية من قول ابن شهيد: 

أيها المعْتدُّ في أهل النُّهى           لا تذُبْ إثــــر فقيـد وَلَـها

وإذا الأسدُ حمَتْ أغْيَالَها لم يَضُرَّ الخِيسَ صَرْعاتُ المها

وغريبٌ يا ابنَ أقمارِ العلا          أن يُراعَ البدْرُ من فَقْدِ السُّـها

ولا تطالعنا هذه الرقة التي تحدث عنها حازم القرطاجني، ثم سليمان البستاني وعبد الله الطيب،  إلا في قول أبي حيان الأندلسي الذي كرس جل مراثيه لابتنه نضار، وذلك قوله: 

كيْف لي عينٌ تَرَى غَيْرَ التي      هيَ روحِي ذهبتْ من جسدِي

دُرَّة بيضاءُ حلَّت مُهْجَتي            خطفتْ مني فأوْهَتْ جَلَدِي

إن عيني مثل عينٍ ثَرَّةٍ   إن نَزَحْتَ الماءَ منها تزِدِ

وفؤادي شفَّهُ الحزْنُ فما هو إلا دائماً في نكدِ

وأما بالنسبة "للمديد"، فإن كل ما تجمع من نصوصه، لا يعدو تسعة أبيات، منها قول يوسف الثالث، وقد اشتد وجده على أخيه: 

يا صدىً بالثَّغْر أرَّقَنِي    حين بان الصَّبْرُ والجَلَدُ

قَرُبْتْ منِّي مسافتهُ         وطريق وصْلُه صدَدُ

ويقول الناسُ في مَثَلٍ     كيف يسلو الوالِدَ الولَدُ

وتنم هذه المقطوعة عن حزن عميق، ملك على الشاعر لحظته التعبيرية، فلم يسعفه على نقل أحاسيسه في هدوء وإطالة. وتقترب هذه الأبيات قليلا من قول ابن خفاجة،  يعارض مقطوعة للوزير أبي بكر بن الصائع في رثائه الأمير أبا بكر بن علي:

يا صدىً بالثَّغْر مرتَهِناً   بمَمَرِّ الرِّيحِ والدِّيَمِ

لا أرى أخَا كَمَدٍ  باكياً منك أخَا كَرَمِ

كم بِصَدْري فيك منْ حُرَقٍ          وبكَفِّي لكَ مِنْ نِعَمِ

وقد ظهر لي من خلال المقارنة أن الشاعر لم يكن فقط معجبا بقول أبي بكر الصائغ، بل وقف أيضا من قوله موقف الشاعر الذي يهمه إبداء الرغبة في السيطرة على النظم، خصوصا إذا علمنا أنه أقدم ثانية على معارضة أبياتها، ملتزما بغرضها ووزنها وعدد أبياتها:

 

لا لَعَمْرُ المَجْدِ والكَرَمِ     ومزارِ البيْتِ والحرمِ

لا سلَوْتُ الدَّهْرَ عن ملِكٍ طلْقِ وجهِ العُرْفِ والشِّيَمِ

هذه نُعْمَاهُ ملءُ يَدِي       ونَثَا حُسْناهُ مِلْءُ فمي

ويبدو أن الأخذ برقتهما يحتاج إلى نوع من التريث، لأن الشاعر لم يصدر فيهما عن تجربة شعرية صادقة، بالحجم الذي أحسه وهو يعارض مقطوعة صديقه. ولا يخفى على أحد ما للمعارضة من قيمة نقدية وإشهارية، تستطيع  أن تضفي على الوزن مسحة جمالية تؤهله في باب الرثاء، أن يصبح في مرحلة لاحقة، وربما كما كان في السابق، نموذجا معياريا.

أما علاقة "الرثاء" بالأوزان القصيرة فتصل في مجزوء الخفيف، ما مجموعه  (1.41٪) من الأبيات، (2.88٪) من المقطعات، (2.94٪) من الوحدات.

ويتجلى نفور الشعراء من هذه الأوزان في ضيق مجالها الإيقاعي، وعدم اتساعها لغير حالات الانفعال الشديد، خاصة في مثل هذه المواقف الارتجالية التي حدثت لابن الأبار- مثلا- إلى حصر نفسه الشعري في البيتين التاليين:   [م. الكامل]

عِشْنا لمَوْتِ إمامِنا          ثَاَر في يومِ الخَمِيسِ

ما بَاُلنَا لم نُفْدِهِ    ونفُوسُنَا مما وَهَبْ؟

ولم يستطع أبو حيان الأندلسي، وعبد الكريم القيسي، ويوسف الثالث، التخلص من طابع الارتجال الذي حفّ بقصائدهم من كل جانب، فجاءت قريبة المرمى، سهلة المأخذ، بعيدة عن التكلف، والجري وراء استدعاء المعاني البعيدة.  ونموذجها قول يوسف الثالث من أبيات في التفجع على ولده:   [م. الرمل]

إن لِلْهمَمِ خميسٌ ثارَ في يوْمِ الخميسِ

ضَحِكَتْ سِنُّ الردى       عنه في يومٍ عبوسِ

فَلَكَمْ للدَّهْرِ من   حالتيْ نُعْمَى وبؤْسِ

والحِمَامُ كم له    من مُعاطاةِ كؤوسِ

قِطعةٌ من كبدي جُعِلَتْ فوق الرُّؤوسِ

وإذا كانت هذه القصيدة تؤكد من خلال أبياتها البالغ عددها تسعة عشر بيتا، أن الشاعر قد نظمها بعد أن هدأت ثورته، فإنه- مع ذلك- ظل محكوما فيها بالموقف الشعوري الذي لازمه إلى حين، فشغله عن أي مقياس معياري، يربط القصار بالانفعال الشديد، والقصادئد الطوال بلحظات الهدوء والاستكانة.

ولا يسعنا من خلال النتائج التي يدلي بها المنهج الإحصائي، إلا أن نؤكد مرة أخرى، خضوع المراثي لهيمنة الأوزان الشعرية. فإذا كان نصيبه منها قد جاء متباينا، فقد خضع لتباين نسبها العامة من الشيوع، ناهيك عن أهمية هذا الغرض وشيوعه بين الشعراء، وما يمكن أن تلعبه بعض الميول الشخصية من دور في تباين هذه الاختيارات، وفي بناء قاعدة عامة، هذا بالإضافة إلى ما سبق تقريره من خضوع الشاعر الأندلسي في اختيار أوزانه لحالات نفسية متباينة، جعلته في غالب الأحيان يميل إلى الأوزان الطويلة والكثيرة المقاطع.

6 -  الفخـــر:

جاء في  لسان العرب " الفخر" التمدح بالخصال والافتخار، وعد القديم، وتفاخر القوم، فخر بعضهم على بعض، والتفاخر: التعاظم، وفي الحديث : ادعاء العظم والكبر والشرف، لا تبجحا، ولكن شكرا لله وتحدثا بنعمته.  وهو في الاصطلاح الأدبي بمعنى واحد، يقول ابن رشيق : " والافتخار هو المديح بعينه، إلا أن الشاعر يخص به نفسه وقبيلته".  فالفضائل التي كان قد ذكرها "قدامة بن جعفر" وفصل فيها الحديث غيره من النقاد، لا تختلف بين هذين الغرضين، إلا من حيث استعمال الضمير الذي يعود في " المدح" على المخاطب وفي " الفخر" على المتكلم أو الجماعة.

والحقيقة أن هذا الغرض لا تتبين مقاصده بوضوح إلا في سياق الشعر الجاهلي، فقد تميز به العرب في الجاهلية، وجعلوه على رأس الأغراض الشعرية التي اشتهروا بها، فتغنوا بأمجادهم، وذكروا مآثرهم، وعددوا فضائلهم، وفضائل آبائهم وأجدادهم، وما تميزوا به من رفعة وبطش وبسالة وكرم، وتفوق في نظم الشعر..تحذوهم، في غلو وإفراط، رغبة أكيدة في بلوغ الغاية القصوى من هذه المعاني التي سجلها الشاعر الجاهلي اعتزازا بنفسه وافتخارا بقبيلته التي بادلته الاحتفاء، فرأت فيه حماية لأعراضها، وذبا عن أحسابها، وتخليدا لمآثرها، وإشادة بذكرها.

أما وقد "تغيرت وظيفة الشعر والشاعر من المفاخرة والمنافحة عن القبيلة إلى الدعوة السياسية والمدح الإشهاري"،  إبان مطلع القرن الثالث للهجرة، فإنه كان لابد أن ينصرف عنه الشعر العربي قليلا، ويتجه نحو المديح كجنس فرضه عصر ابن قتيبة الذي فهمه في إطار البدخ والترف.

وقد أقل منه الشاعر الأندلسي، فأقعده في الرتبة العاشرة، حيث لم ينظم منه سوى نسبة (2.27 %) من الوحدات، وما يعادل (1.85%) من الأبيات، و(1.97%) من المقطعات، و(2.88%) من القصائد، رغم ارتفاع نسبة تداوله إلى (62.96%). ذلك أن الشعراء الذين تطرقوا لهذا الغرض لم يتجاوزوا به ثلاث عشرة وحدة شعرية، ولم يكثروا منه شأن يوسف الثالث، لاعتبارات تتعلق بشخصه، حيث نظم منه سبعا وأربعين وحدة شعرية معدلها (42.47%). هذا وقد عمل على تغييبه كل من: الغزال، وابن عبد ربه، وابن هانئ، وابن دراج، والألبيري، وابن زيدون، وأبي الحسن الششتري، وحازم القرطاجني، وعبد الكريم القيسي.

ويمكن أن نجد تفسيرا آخر لتراجع هذا الغرض في ما انتهى إليه حازم من قول بأن للشعر اعتبارات بحسب اختلاف أنماطه وطرقه، وبحسب اختلاف الأزمنة والأمكنة، واختلاف أحوال القائلين، وأحوال ما يتعرضون للقول فيه. 

وقد التفت جودة الركابي إلى بعض هذه التفسيرات، فأرجع هذه القلة إلى نفسية الشاعر الأندلسي الوادعة المستسلمة لأحلام الطبيعة والرخاء التي لم تكن تلائم هذا النوع من الشعر الصاخب القوي الذي امتاز به شعر المشرق، حيث قال: " ولا شك أن للظروف الإقليمية أثرا في هذا الاتجاه النفسي الذي أضعف فيهم روح الحماسة وقلل من حدة البداوة".

وكان الناقد العربي قد اشترط جملة من الشروط الضرورية، يكملها مشروع حازم القرطاجني الذي يقوم على مبدأ التناسب، أساس نظريته في الشعر، فقال ابن رشيق:" فكل ما حسن في المدح حسن في الافتخار، وكل ما قبح فيه قبح في الافتخار".  وأوضح حازم قوله فقال: " فإذا كان مقصده الفخر كان الوجه أن يعتمد من الألفاظ والنظم والأسلوب ما يكون به بهاء وتفخيم".

والأخذ برأي " ابن رشيق" لا يدع مجالا للشك في صلاحية أوزان المدح لغرض الفخر، فقد أفاد الإحصاء هذه الحقيقة التي سكت عنها ابن رشيق، وأوضحها حازم القرطاجني حين خصه بأوزان الطويل، والكامل، والبسيط.  أما فيما يتعلق بالأوزان الأخرى التي أحصيناها لغرض المدح، فإنه لم يشد سوى عن : المتدارك، والمديد، ومجزوء الرجز، ومجزوء الخفيف، ومشطور الرجز، ومجزوء الوافر، والمقتضب، والرجز.

ونسبة هذه الأوزان مجتمعة لا تتعدى في غرض المدح (2.05%) من الوحدات، و (2.74%) من الأبيات، و(1.42%) من المقطعات، و(2.11%) من القصائد، أما نسبة تداولها فلم تزد في أحسن الاختيارات عن (14.81%).  وباستثناء هذه النسب الباهتة، فقد رفض حازم وعبد الله الطيب صلاحية هذه الأوزان للأغراض الجادة،  فأكد "الفخر" ثانية على عدم اتساعها لذلك، ربما لما تمتاز به من خصائص موسيقية تجعلها نابية في غرض كالفخر، أو لضيق مجالها الإيقاعي وعدم اتساعها للمعاني الجادة التي غالبا ما تتطلب مجالا إيقاعيا يمتاز بفضاء واسع يتمكن من استيعاب هذه المعاني، فلا يحتاج فيها الشاعر إلى الاختصار والحذف.

إلا أننا لا نستبعد أن يكون نفور الشاعر من هذه الأوزان راجعا إلى قلة وحداته الشعرية وضعف هيمنتها في الشعر الأندلسي، فاقتصر لذلك على ثلاثة عشر وزنا. وتفيد قراءة سريعة للنتائج الإحصائية، أن الشاعر الأندلسي كان يفضل أوزان: الطويل، والكامل، والبسيط. وتأتي عنده في الاختيار الأول بمجموع معدل يصل إلى (76.08%) من الوحدات، و(73.25%) من الأبيات، و(79.98%) من المقطعات، و(70.82%) من القصائد، أما نسبتها من التداول، فبلغت في الطويل (48.14%)، وفي الكامل (25.22%)، وفي البسيط (33.33%).

وتدل هذه النسب في  وضوح تام، على التزام الشاعر الأندلسي بنظرية حازم في تناسب هذه الأوزان لغرض الفخر، وهو من جهة أخرى، لم يحد عن العرف السائد بين شعراء المشرق، وخاصة عن نهج الشاعر الجاهلي. 

أما بقية الأوزان التي يلخصها الجدول رقم:" 45"، فلا تتجاوز في علاقتها بالفخر نسبة (23.82%) من الوحدات، (23.09%) من الأبيات، (19.93%) من المقطعات، و(29.04%) من القصائد.

وهي في مجموعها لا تخرج عن أشعار يوسف الثالث، وابن عبدون، وابن حمديس، وابن شهيد، وأبي الصلت الداني، وأبي حيان، وابن الخطيب. ولا تتجاوز في أقصى الاختيارات معدل(11.11%) من التداول، بحيث لا تتعدى خمس وحدات في الوافر، وأربع وحدات في الخفيف، والرمل، وثلاث وحدات في الوافر، ومجزوء الكامل، ووحدتين في السريع ومخلع البسيط، ومجزوء الرمل، ووحدة شعرية في المجتث، والمنسرح.

وتنضاف نسب هذه الأوزان منفردة لتؤكد مرة أخرى صلاحية الفخر للأوزان الطويلة بما لا يدع مجالا للشك خاصة بالنسبة للطويل، والكامل، والبسيط.

وقد أجمع عبد الله الطيب وسليمان البستاني،  ثم ابراهيم أنيس من بعدهما على هذه الأوزان، بعد استقراء مكن أحدهم من القول بأن " حماسة الجاهلين وفخرهم كان من النوع الهادئ الرزين الذي يتطلب التأني والتؤدة، ولذلك جاء في قصائد طويلة وأوزان كثيرة المقاطع".

بل لأنه لا يوجد في نصوص الفخر الأندلسي ما يطعن في صحة رأي هؤلاء، إلا ما كان من ذلك التشويش الذي تمارسه لعبة الخصائص الموسيقية المجردة، والتي تظهر حدتها مع عبد الله الطيب ـ في الغالب من الأحيان ـ حين يخضع اختياراته لذوقه ولنظريته في الأوزان، أما إذا لم تستجب لهذه الخصائص، فإنه لا يتوانى في طردها وإبعادها عن دائرة الوزن الذي هو بصدد الحديث عنه.

وقد حذر "جيروم ستولنيتز" من مغبة التجريد الباطل لما له من نتائج وخيمة لا تتنبه إلى العلاقات الجديدة التي تؤثر في العنصر المجرد، وتحدث اختلافا في طبيعته حين يتصل بالعناصر الأخرى للموضوع، أو عندما تصبح له علاقات متبادلة في مواضيع مختلفة ومتعددة.

وسبق أن تبين لنا كيف استجابت هذه الأوزان لغرض " الرثاء" وكيف همشت " الرمل" و " المديد" وجرفت معهما رأي حازم، وعبد الله الطيب، وسليمان البستاني، ولعل الجدول العام لأوزان الشعر الأندلسي وأغراضه كفيل بإبراز هذه الحقيقة التي لا تقف عند غرض معين، بقدر ما تسمح لهذه الأوزان بالدخول في علاقات متنوعة ومختلفة.

وليس تقرير هذه التشبيهات والاختلافات بين "الفخر" و "المدح" أو بينه وبين أغراض أخرى " كالرثاء" إلا إحدى غايات هذه الدراسة، لما تتيحه لنا مقارنة غرض بغرض من تفسير جزئي يمكن من تسليط الضوء على قضية الوزن والغرض.

إن استدعاء " الرمل" كفضاء إيقاعي حظي برفض الاتجاه المؤيد لقضية الوزن والغرض، لا تسمح نسبه بإبعاده عن دائرة الفخر، رغم ما تمتاز به من ضعف في كفايتها التمثيلية، والتي لا تتجاوز(3.53%) من الوحدات، و (3.40%) من الأبيات، و( 1.53%) من المقطعات، و(6.25%) من القصائد، و(7.40%) من التداول.

وللاستئناس بلا جدوى هذا الإبعاد، نستحضر في ذهننا نسبه من الرثاء داخل الهرم الإيقاعي الذي شكل البنية الإيقاعية لهذا الغرض، والذي لم تتجاوز فيه ـ مع الأسف ـ  نسبة (1.96%) من الوحدات، (2.54%) من الأبيات، (2.89%) من المقطعات، (1.48%) من القصائد، و(11.11%) من التداول.

فهذا عبد الله الطيب يرفض أن يتخلص من صبغة الأسى التي تميز الرمل في حالته المجردة، ويخطئ العراقيين لتعاطيهم لهذا الوزن في ملاحمهم، إذا لم يكونوا قد اختاروه لخفته وسهولته على الحفظ. وعنده أن " الشعر الغزلي يناسب الرمل أكثر من هذا النوع الملحمي".

فما هي ـ إذن ـ الغاية من شعر يتغنى بالفضائل إذا لم يضمن لنفسه الحفظ والذيوع بين الناس، سواء اختار هذا الوزن أو غيره من الأوزان ؟ أم أن الناقد تعمد تجاهل هذه الحقيقة سعيا منه إلى تدشين رؤية جديدة تخضع لجمالية الوزن في حالته المجردة ؟

إن نماذج " الرمل" لا تخرج عن شعر ابن عباد، ويوسف الثالث. وقد اختاره الأول لتمثيل عواطفه والتغني بأمجاده فقال: 

مَنْ عَزَا المَجْدَ إلينا قد صـدق           لــم يلم من قال مهمـــا قـــال حق

مــجدنــا الشــمس سناء وسنا           من يرم ستر سنــــاها لـــم يُطَـــقْ

أيهـــا الناعـــــي إلينا مجدنــا           هل يضر المجد أن يخطب طرق ؟

لا نـرع للدمــــع في أمــــاقنا           مزجتـــــه بدم أيـــدي الحـــــرق

حنق الــــدهر عليــــنا فسطـا           وكــــــــذا الدهر على الحر حنق

وقديمــا كلف المـــلك بنــــــا           ورأى منـــا شموســــا فعشـــــق

وقد مضى منا ملوك شهروا            شهرة الشمـــس تجلــت في الأفق

نحن أبناء بني مـاء السمـــاء           نحوهــــا تطمـــع ألحـــاظ الحدق

وإذا ما اجتمع الديــــن لنـــا            فحقـــير مـــا من الدنيــا افتــــرق

حججا عشرا وعشرا بعدهـا            وثلاثيــــن وعشـــــرين نســــــق

أشرقت عشرون من أنفسنا              وثلاث نيرات تأتلق

وتنطوي هذه القصيدة عن احتجاج وثورة دفعت بالشاعر إلى اختيار " الرمل" لقصره النسبي. إلا أن مسحة الأسى لا تفارق معانيها، فقد أطلقها الملك الأسير زفرة حرى وهو في سجنه بأغمات، وربما لذلك استدعى " الرمل" ليس لأنه يمتاز في حالته المجردة باللين والرقة، بل لأنه اكتسب هذه الخاصيات بعد دخوله في هذه العلاقة التي تطابق حالة الشاعر النفسية.

والذي أريد أن أؤكد عليه، هو أن الوزن لا يمكن أن يحتفظ بخاصية موسيقية واحدة، وإنما يمكن أن نجد له خاصيات أخرى مخالفة لما كان عليه في السابق. ويمثل قول يوسف الثالث من قصيدة وجهها ارتجالا إلى مجلس علماء حضرته في وليمة شرعية اتخذها لهم احتفاء بالمزيد من تأنيسهم، نموذجا صالحا لإثراء هذه الرؤية، يقول فيها: 

يومنا يوم صبـــاح مشرق          فأجيبوا يا نجـوم الأفــــق

يوسفيــا قــــد أقـــام سنــة          نظمت أشرافهــا في نسق

في رياض حسنهـا متــحد          شائع في مغرب ومشـرق

وأنا يوسفـــها مــن دولــة          أطلع الأنجم ملأ الحـــدق

بين أبطال جهاد تمتـــطي          للوغي غر الجيـــاد السبق

ووفود الملك قد حفوا بــه          درر العقد وتاج المفــــرق

بذلت يمناي ما شاء الندى          وعلى الله جــزاء المنفـــق

وتنم هذه القصيدة البالغ عدد أبياتها ثلاثة عشر بيتا – عن روح بلغت من الانتشاء بمجدها، وحسبها، وشجاعتها، وكرمها ما دفعها إلى اختيار هذا الوزن لتناسبه لمثل هذه الخفة التي تطلبها المقام الشعري، وقد جمع الملك الشاعر حول مائدته مجموعة من العلماء، كان من المفروض أن يتلقاهم بنظم خفيف متناسب، لا يثقل عليهم، ولا يذهلهم عن مأدبة تتطلب نوعا من اللباقة في الترحيب بضيوفها.

وقد صدر في قصيدة له من نفس الوزن عن همة، توجهها طبيعته الملوكية التي لا يعز عليها مطلب، فعارض بها قصيدة الشريف الرضي، مظهرا فيها عن براعته الشعرية وقدرته على النظم الجيد.

وإذا تحولنا نحو الشطر الثاني من رأي أنيس في مسألة " النفس الشعري" أدركنا إلى أي حد تبدو "طوال" الفخر الأندلسي دون رأيه.   فقد سجل الإحصاء ميل الأوزان الطويلة نحو المقطعات بفارق يصل (8.98%)، وفي مقابل ذلك مالت المجزوءات نحو القصائد بمعدل (10.40%)، ولم تتجاوز في المقطعات (3.06%).

وقد تنبه إبراهيم أنيس إلى هذه الحقيقة، فتعمد إخفاءها، مكتفيا بتخصيص المقطعات للأوزان القصيرة في حالة الانفعال الشديد الذي يكون عليه الشاعر حين " تثور نفسه الأبية لكرامتها ويمتلكها انفعال نفساني".

وعلى قلة نصوص هذه الأوزان في الشعر الأندلسي، فإننا نجد في مقطوعة ابن عباد، ما يخالف رأي أنيس. يقول فيها:  (م.الكامل).

لابد من فـرج قريب                   ياتيك بالعجب العجيب

غزو عليك مبــارك                   في طيه الفتح القريب

للــه سيفك إنــه                      سخط على دين الصليـب

لابد من يوم يكـــو                     ن لــه أخ يوم القلـيب

وهذه المقطوعة لا تصور انفعالا شديدا، بقدر ما تترقب فرجا قريبا، سيعمل فيه الشاعر سيفه المسلول في وجه الصليب.

والظاهر أن " أنيسا" قد اعتمد في حكمه هذا على مقطعات المجزوءات والأوزان القصيرة، فانطلق من الفخر الجاهلي الذي كانت تثيره العصبية القبلية، والذي لم يكن الشاعر فيه يقوى على تملك مشاعره خاصة في لحظة المشاحنات والمساجلات الشعرية التي لا تتطلب غير الارتجال والتقصير بديلا.

إن تشكل البنية الإيقاعية لديوان الفخر الأندلسي من هذه الأوزان مجتمعة، لا يجب أن يلهينا عن الحقيقة العلمية التي أثبتها الإحصاء لأوزان الطويل، والكامل، والبسيط، وما تتمتع به من هيمنة تعود في الأصل إلى اتساع مجالها الإيقاعي، وقدرتها على استيعاب وتحمل أكثر المعاني شعرية، وأقربها إلى العقل، وأبلغها على خلخلة المتلقي الذي يفترض في قصيدة الفخر أن يكون أحد الأشخاص الذين ينتمي إليهم الشاعر، فيستلذ بهذا الوزن وبحمولته المثقلة بالمعاني الخالدة، أو أن يكون عدوا له، يقدر حجم الكلمة المتمكنة في سياقها الفضائي الواسع الذي ينزل عليه كالصاعقة، فيرجه، ويظهر له تفوق خصمه عليه.

7- أغراض أخرى:

إن وعينا بأهمية القراءة العمودية في فهم إشكالية تناسب الوزن والغرض، وما تطرحه هذه الدراسة في بعديها الأفقي والعمودي من نتائج بالغة الأهمية، يدفعنا إلى أن نختصر حال بقية الأغراض وعلاقتها بالأوزان الشعرية في جداول خاصة تستحضر نتائج الموضوع من خلال المقاييس الإحصائية.

وتجمع هذه الأغراض ـ كما يتبين من الجداول الأخيرة   ـ  بين واحد وستين غرضا شعريا، تتمتع فيها الأوزان المشهورة بالمراتب الأولى، وهذه الأخيرة نادرا ما تتبادل المواقع. ويأتي الطويل على رأس هذه الأوزان، حيث ناسب ثمانية وأربعين غرضا شعريا لم يتنازل فيها عن المراتب الأولى، فجاء أولا: ثلاثا وثلاثين مرة، وثانيا: إحدى عشرة مرة، وثالثا: أربع مرات.

وبلغ نصيب الكامل من هذه الأغراض أربعين غرضا شعريا، فاحتل الرتبة الأولى إثني عشرة مرة، والرتبة الثانية ثماني عشرة مرة، والرتبة الثالثة ثماني مرات.

أما البسيط فناسب تسعة وثلاثين غرضا شعريا، فجاء أولا: إحدى عشرة مرة، وثانيا: إثني عشرة مرة، وثالثا: إحدى عشرة مرة، وجاء رابعا: أربع مرات، ولم يتأخر إلا مرة واحدة في غرض " المداعبة" حيث احتل هناك الرتبة العاشرة.

 وتوجد هذه الأغراض  في علاقتها بالأوزان الثلاثة، على اختلاف نسبتها وعددها وتقارب رتبها، على علاقة هامة بالأوزان المذكورة، ولا يكاد يوجد ما يطعن في صحة هذه النتيجة إلا ما كان من ضعف على مستوى تداولها في بعض الأغراض المركبة أو القليلة الشيوع بصفة خاصة، فهذا وحده لا يكفي لرفض هذه الأوزان في علاقتها بهذه الأغراض التي قلت نسبها من التداول وارتفعت في باقي المقاييس الإحصائية. بل إن من هذه الأغراض ما يختص بوزن واحد ولا يتعداه إلى غيره.

ومن بين هذه الأغراض: (غزل ـ فخر)، (مدح ـ اعتزاز)، (مدح- فخر- حنين)، (حنين ـ فخر ـ عتاب)، و(تقريظ ـ فخر). فهذه الأغراض توجد على علاقة متميزة بوزن " الطويل" وإن كانت نسب تداولها في هذا الوزن لا يتجاوز (3.70 %).

وتنطبق هذه الملاحظة على وزن " الكامل" و" البسيط" في علاقتهما بالأغراض التالية. فقد اختصت بالأول أغراض هي (مدح ـ نصح ـ استعطاف)، (فخر ـ نصح ) و(تصوف ـ مدح). واختصت بالثاني أغراض هي: (النحو)، (مدح- نصح)، و( شكوى- هجاء).

والجدير بالذكر، أن وضع هذه الأغراض في علاقتها بالأوزان المذكورة، تخالف بصورة كبيرة وضعها في القراءة الأفقية، فهي هناك لا تعدو أن تكون مجرد أغراض باهتة، وغير ذات قيمة تذكر في هذه الأوزان، ومن ثمة كانت للقراءة العمودية أهميتها في فهم إشكالية تناسب الوزن والغرض.

أما بالنسبة لمجموعة الأغراض التي ناسبت المتقارب، والوافر، والخفيف، والسريع، والرمل، ومجزوء الكامل، ومخلع البسيط، ومجزوء الرمل، والمنسرح، والمجتث والرجز، فهي نفس الأغراض التي كانت تعرف نسبة متوسطة من الشيوع إلى ضعيفة داخل المتن الأندلسي.

وتتمتع هذه الأوزان في علاقتها بهذه الأغراض بنسب متوسطة في جميع مقاييسها الإحصائية، إلى عالية في بعض الأحيان. ولا يوجد ما يعكر من صفاء قيمتها في هذه الأغراض، إلا ما كان من نسب تداولها التي تراوحت في أغلب الأحيان بين (18.51%)، و(3.70%).

وهي في توسطها لا تخرج عن نسبة (33.33%)، ولا تنزل عن (25.92%). أما وضع الأغراض النادرة، فقد احتلت فيها بعض الأوزان مكانة عالية تقدر ب(100%) في علاقة " المتقارب" بـ"هجاء ـ تحريض "، وب(40%) في علاقته " بالتوديع". وتصل في علاقة " الوافر" ب" عتاب- فخر" نسبة (66.66%)، وفي علاقته ب " رثاء- فخر" (40%)، أما نسبتها من التداول، فتراوحت بين (7.40%)، و (3.70%).

وبالنسبة للمديد، ومجزوء الرجز، والهزج، ومجزوء الخفيف، ومجزوء الوافر، والمتدارك، ومشطور الرجز، ومجزوء البسيط، والمضارع، فلا تشكل علاقتها بالأغراض التي ناسبتها أية قيمة تذكر،  إلا ما كان من وضع " مجزوء الخفيف" الذي ناسب " عتاب- فخر" بنسبة (33.33%) من الوحدات، و(25%)من الأبيات والمقطعات، وإن كانت نسبته من التداول لا تتجاوز (3.70%).

أما " المضارع، ومنهوك المنسرح، ومجزوء المتقارب، ومنهوك الرجز، ومشطور السريع" فلا نجد لها أثرا يذكر في واحد من الأغراض التي شملتها الدراسة الإحصائية.

خلاصة:

بعد هذه الحقائق المنطقية التي تفصح عن عدم اطراد المواقف النقدية، والتي تعتمد في جانب منها على نماذج شعرية ذات كفاءة تمثيلية، يأتي الإحصاء ليؤكد- مرة أخرى - دور الهيمنة التاريخية للغرض الشعري، في مجموع طرقه وحالاته النفسية، في احتضان أكبر عدد ممكن من الأوزان الشعرية، وخاصة منها الأوزان التي نالت نفس الحظوة من الشيوع على طول الخط الشعري العربي، إلا ما كان من بعض الاختلافات البسيطة التي لا تتجاوز تبادل المواقع بين هذه الأوزان في النادر من الأحيان.

أما الحقيقة الثانية، فلا تختلف عن الأولى إلا من حيث قلة أوزان الأغراض التي توسطت نسبتها من الشيوع، أو كادت لا تظهر إلا ضمن بعض الإبداعات التي تبعدها عن القاعدة العامة، دون أن تلغيها، حيث يبدو أن الغرض كلما كانت نسبه مرتفعة، إلا واحتضن أكبر عدد من الأوزان الشعرية، والعكس هو الصحيح بالنسبة للأغراض التي مالت نحو القلة، أو الندرة. فقد سجل الإحصاء اختفاء هذه الأخيرة في الأغلب الأعم من هذه الأغراض.

وموقع هذه الأوزان مجتمعة من أغراض الشعر الأندلسي، لا يخرج عن دور الهيمنة التي خضعت له بنية الهرم الإيقاع في الشعر العربي، هذا الهرم الذي يعتبر جزءا من بنية أعم ظلت توجه الشعراء نحو اختيار أوزانهم، ليس بدافع التقليد فقط، بل لانسجامها – كذلك- مع هذه الأغراض، لما تزخر به من طاقات موسيقية، أو نفسية، تفيد من تعدد مناجي الشعراء، واختلاف أساليبهم، وطرقهم الشعرية، وتوجهاتهم الظرفية التي كانت تحكمها أحيانا مجموعة من العوامل السياسية والاجتماعية والبيئية، فاستجابت لها، من دون أن تبدو نافرة عنها أو شاذة.

ولم يكن ميلها نحو الأوزان التي حظيت فيها بنسب ضعيفة، إلا محاولة من الشعراء لخلق مجموعة من العلاقات الجديدة، لا تقف عن الأغراض والأوزان المهيمنة، ومن ثمة فإنه لا يعقل طرد شواهدها من دائرة الإبداعات الشعرية، بحكم أنها ظلت خارج حدود التنظيرات الشعرية، والاعتماد في ذلك على مجموعة من المؤهلات المعيارية أو الذوقية،  التي طالت أيضا مجموعة من الأغراض الهامة، فخصتها بأوزان معينة، دون أن تستفتيها الرأي، فتقوم بتشريح موسع لنصوصها، بعيدا عن خصائص الأوزان المجردة، وبعيدا عن الحالات النفسية التي تسلب النص كل خصوصية لغوية لا يسمح بضبط بنياتها ودلالتها، والاقتصار فيها على المواجهة الحرة للنصوص المعتمدة في الكثير على الاستجابة العرضية والآنية خلال عملية التلقي.

وفي مقابل ذلك، تجدنا لا نقبل على عقد مقارنة خارج حدود الغرض الواحد، لأن ذلك غالبا ما يؤدي إلى نتائج عكسية، حيث يصبح الغرض الذي حضي بقصيدة واحدة في وزن "كالطويل" أنسب منه في الغرض الأول، وقد جاءت هذه الدراسة لتكمل هذا المشروع النقدي، فتقف عند هذا الجانب الذي أغفلته مجموعة من الدراسات الحديثة في فهمها لقضية الوزن والغرض، وتدعو إلى أخذ الاحتياط من نتائجها الراهنة، خاصة في الأبواب التي تعقد للمقارنة، أو لاستخلاص النتائج ووضعها في مقام القاعدة العامة.

 

 

 

Publicité
Publicité
Commentaires
مدونة الدكتور عبد الإله كنفاوي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية تطوان- المغرب
Publicité
Archives
مدونة الدكتور عبد الإله كنفاوي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية تطوان- المغرب
Publicité